التاريخ : الأحد 07 يوليو 2024 . القسم :
المدينة المنورة فى استقبال القائد
الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله ج وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد،
تمر علينا هذه الأيام ذكرى هجرة الحبيب محمد ج من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة (عام 623 م) .... بعد 13 عاما من بدء بعثته (عام 610 م)، وبعد 53 عاما من مولده الشريف (عام 570 م). ولقد اتخذ المسلمون حادث الهجرة -دون غيره- بداية للتقويم الإسلامي، باعتبار أن هذا الحدث هو أهم أحداث التاريخ الإسلامي كله؛ لأنه يوم:
تحول (الفكرة) إلى (واقع)...
و(النظرية) إلى (تطبيق)...
و(الدعوة) إلى (دولة)...
حينما استقبلت المدينة رسول الله ج في هذا اليوم الأغر.. بشبابها وشيوخها.. ورجالها ونسائها.. بل كذلك أطفالها، بالنشيد الخالد:
طلع البدر علينـــــــا من ثنيـــــات الوداع
وجب الشـــكر علينـــا ما دعـــــــى لله داع
أيها المبعوث فينــــا جئت بالأمر المطاع
إذًا؛ فهو الأمر المُطاع..
لم يكن رسول الله حين قدم المدينة... (فيلسوفا) في عزلة، أو راهباً فى صومعة، أو (معلما) في مدرسة، أو (واعظا) في مسجد... بل كان (إماما) للناس في كل شئون الحياة.. (رسولاً) يتلقى الوحي من السماء، و(نبياً) يعلم ويربي.. و(حاكما) يحكم بشريعة الله.. و(قائداً) يطاع ويتبع.. و(قاضياً) يقضي بين الناس. ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الجاثية:18].
ومن ثم استفادت المدينة وشرفت وارتقت بترحبيها برسول الله ج؛ فاهتدت بعد حيرة.، وتوحدت بعد فرقة، وعمَّ فيها السلام بعد طول حروب.. وصارت نموذجاً للمدينة الفاضلة التي كانت عشق الفلاسفة والمصلحين.
هل كان خيراً للمدينة أو مكة قبلها، أن يحكمها ويدير شؤونها رسول الله ج ومن بعده أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضوان الله عليهم... أو يحكمها أبو جهل وأبو لهب والوليد ابن المغيرة وعبدالله ابن أبي بن سلول؟؟!!!!!
ومن المدينة المنورة امتدت أنوار الاسلام لتشمل الجزيرة العربية بأسرها، بل امتدت إلى قارات العالم المعروف وقتها.. في سنوات قلائل.. وتلك معجزة الإسلام الخالدة.
حينما يأخذ المسلمون دينهم كاملا غير منقوص ﴿خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ﴾، وينفذون أوامره وتعاليمه في كل شئون الحياة: السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والعسكرية ﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ﴾، حينها ينصلح أمر الحياة كله. وهكذا كانت فترة النبوة والرحمة، ثم فترة الخلافة الراشدة، ثم الخلافة الأموية، ثم الخلافة العباسية، ثم الخلافة العثمانية التي كان المسلمون وقتها في القمة والصدارة في ترتيب القوى العالمية.
وحينما يضعف تطبيقهم للإسلام بتعاليمه الواضحة والحاسمة في أي جانب من جوانب الحياة - يختل هذا الجانب، وتضعف دولتهم، وتُفَل شوكتهم، ويهجم عليهم أعداؤهم، كما حدث في فترات الحروب الصليبية وحروب التتار وفترات الاحتلال الغربي.
وهكذا كان تاريخ الإسلام بين مد وجزر.. وقوة وضعف؛ حتى كانت الطامة الكبرى في مطلع القرن العشرين الميلادي بإلغاء الخلافة الإسلامية (عام 1924م)، وتمزيق الدول الإسلامية، لتقع تحت الاحتلال والانتداب؛ بأيدي أعدائها المتربصين بها على مدار الزمان. وكان زرع الكيان الصهيوني الهمجي الغاصب في أرض فلسطين الغالية لتمزيق العالم الإسلامي، وفصل شرقه عن غربه، وشماله عن جنوبه؛ لمنع نهضة المسلمين ووحدتهم.
وحينما قامت دعوة الإخوان المسلمين في مطلع القرن العشرين (عام 1928م) - بعد سنوات قليلة من سقوط الخلافة- تدعو إلى تطبيق تعاليم الإسلام بشموله وكماله في كل جوانب الحياة؛ استطاعت أن تصحح المفاهيم المغلوطة، وأن تخرج أجيالاً فريدة تفهم الإسلام فهما صحيحا، وتطبقه واقعاً معاشا؛ فأخرجت الفرد المسلم (سليم العقيدة - صحيح العبادة – قوي الجسم – متين الخلق - مثقف الفكر – قادرا على العمل والكسب – مجاهدا لنفسه – حريصا على وقته – منظما في شؤونه – نافعا لغيره)؛ ثم كانت الأسرة المسلمة ثم المجتمع المسلم، وأخيرا كانت الحكومة المسلمة.
وكان بدهيًّا أن يقف أعداء الإسلام ضد هذه الحركة الناهضة في صورتين:
- أعداء الخارج: يخافون عودة الإسلام من جديد، وعودة الدولة الإسلامية الموحدة، القوية المنافسة لسلطانهم، ونفوذهم، وسيطرتهم، واستغلالهم.
- أعداء الداخل: الذين تربوا في محاضن المستعمر المحتل على فهم مخالف للإسلام في العقيدة والتقاليد والآداب والأخلاق.. وعلى اختصار للإسلام في مظاهر تعبدية قلَّما يلتزمون بها؛ محاكاة للنظام الغربي الكهنوتي الذي يفصل الدين عن الدولة والشريعة عن الحياة.
وکانت سلسلة من المؤامرات والمكائد؛ بلْه الحروب والمجازر، وفتح السجون والمعتقلات والمحاكم والتعذيب والإعدامات، وصولاً إلى الإبادة البشرية والتطهير العرقي، كما يحدث الآن في الجيل المجاهد من أبطال المقاومة في فلسطين المحتلة.
ترقبٌ وأمل:
لكن هذه الغيوم قد أوشكت أن تنقشع بصمود أهل الحق من أبطال الجماعة المباركة في الأرض المقدسةوكل بقاع الأرض.. في وجه آلة الحرب الغاشمة والإبادة الصهيونية الغربية الحاقدة.. ورأى الناس في مشارق الأرض ومغاربها الفارق بين المجاهد المقاوم الصابر المحتسب المدافع عن دينه ووطنه وعرضه، المتحلّي بكامل أخلاقه وسموه، والمضحي بكل ما يملك حفاظاً على الأرض المقدسة التي هي أمانة في عنقه؛ وبين المحتل الصهيوني المغتصب.. المستبيح للدماء والأعراض والأموال والأعراف.. المدمر لكل مقومات الحياة؛ من منازل ومدارس وجامعات ومستشفيات ودورلعبادة، والمزود من الحكومات الغربية الظالمة بكل أنواع الأسلحة الفتاكة والأموال والعتاد والصواريخ والبوارج وحاملات الطائرات.
إن هذه المفارقات توقظ العالم الاسلامي الآن، بل توقظ أصحاب الضمائر في شتى أنحاء العالم؛ لينتظر الفجر الجديد بعودة الاسلام إلى واقع الحياة، كي ينقذ البشرية التائهة من حضارة غربية وعنصرية صهيونية.. ظهر إفلاسها الحضاري والقيمي في قيادة البشرية، أو إقامة السلام وتحقيق العدل والمساواة بين الناس.
لقد كانت أول كلمات رسول الله وخاتم المرسلين محمد يوم دخل المدينة مهاجرا.. بل قائدا ممكنا، وحاكما ومعلما:
أيها الناس:
1- أفشوا السلام: فكان إفشاء السلام والأمن والأمان دون تفريق بين جنس، أو لون، أو لغة، أو عقيدة.
2- وأطعموا الطعام: فلا يجوز أن يجوع إنسان والإسلام يحكم، بل حتى الحيوان.. أين هذا من حرب التجويع الظالمة التي تمارسها الحضارة الصهيونية الغربية على مرأى من العالم أجمع؟!
3- وصلوا الأرحام: لحفظ العلاقات الأسرية والعائلية الأسرة؛ وليس تحطيم الأسرة، وإشاعة الفاحشة والشذوذ والانحلال الأخلاقي وإغراق المجتمع في السموم والمخدرات.
4- وصلُّوا بالليل والناس نیام.. تدخلوا الجنة سلام): إنها الصلة الروحية الخالصة التى ترطب جفاف المادة وقسوة الحياة بالصلة الدائمة برب الكون والحياة.
تلك حضارتنا التى سعد بها العالم أزمانا عديدة.. توشك أن تعود الآن بعد غياب طويل؛ لتنقذ الإنسان وتجدد الحياة.
﴿وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَىٰ دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ [سورة يونس: 25] والله أكبر ولله الحمد
د. محيي الدين الزايط
عضو الهيئة الإدارية العليا للجماعة