التاريخ : الاثنين 08 يوليو 2024 . القسم : مقالات وآراء
السياسة الخارجية المصرية بعد انقلاب 2013 ..تدمير المكان والمكانة
د. عصام عبد الشافي
أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية
تُمثل السياسة الخارجية مصدرًا من مصادر الشرعية السياسية للنظام، وعندما تكون السياسة الخارجية تعبيرًا عن قيم المجتمع وتقاليده السائدة، وامتدادًا لسياسة داخلية فعالة ونشطة؛ فإنها ستكون مصدرًا لتعزيز شرعية النظام السياسي.
وإذا كان النظام يستطيع استغلال السياسة الخارجية لتدعيم شرعيته سواء بتعبئة موارد خارجية من أجل التنمية أو بتأكيد هيبة الدولة ومكانتها في المجتمع الدولي، أو بتعبئة الجماهير خلف قضايا خارجية، وتحويل اهتماماتها عن القضايا الداخلية؛ فإن السياسة الخارجية يمكن أن تكون مصدرا لاهتزاز وتدهور شرعية هذا النظام.
فالنظام السياسي يستطيع أن يعتمد على سياسته الخارجية كمصدر للشرعية، عندما يكون التوجه العام لهذه السياسة انعكاسا لقيم ومصالح الجماهير، إلا أن السياسة الخارجية لا يمكن أن تُضفي شرعية قوية ومستمرة على نظام يعاني من أزمة في شرعيته. فالسياسة الخارجية عندما تكون ناجحة تدعم شرعية النظام، لكنها لا تخلقها من العدم.
وتفرض المحددات الجغرافية على صانع السياسة الخارجية المصرية توجهات محددة، تتحرك في دوائرها، بحسابات معقدة أمام ارتباطها بالأمن القومي للدولة. فمن ناحية، تعتمد مصر في بقائها على مياه نهر النيل الذي ينبع من خارج أراضيها، ويؤثر على كل أشكال الحياة في مصر. ونظراً لكونها دولة مصب، فإن سياساتها تتأثر بسياسات ومواقف دول المنبع؛ لذلك تعدُّ دائرة حوض النيل من أهم دوائر الأمن القومي المصري، وزادت أهمية هذه الدائرة خطورة وتأثيراً بعد تعدد المشروعات المائية الإثيوبية على النيل الأزرق، وأهمها: مشروع سد النهضة، وما يمكن أن يترتب عليه من تداعيات سلبية على الأمن القومي المصري.
ومن ناحية ثانية، تمتلك مصر سواحل ممتدة على البحر المتوسط والبحر الأحمر، وكان لهذا الموقع تأثيره على ثلاث دوائر متقاطعة:
الأولى: الدائرة العربية؛ حول البحر الأحمر الذي يتم النظر إليه باعتباره بحيرة عربية، باستثناء المساحة التي تشغلها إرتريا في جنوبه الغربي، والكيان الصهيوني الذي يحتل الأراضي الفلسطينية، وكان لهذا الاحتلال تداعياته على الأمن القومي المصري، سواء بوجود العدو الاستراتيجي الأول للدولة المصرية على حدودها الشرقية، أو احتلاله لشبه لجزيرة سيناء بعد حرب 1967، وزاد خطر التهديد بعد تنازل نظام الانقلاب عن جزيرتي تيران وصنافير للمملكة العربية السعودية في أبريل 2016، كما يزيد من أهمية وخطورة هذه الدائرة الارتباط الاستراتيجي بين مضيق باب المندب في جنوبًا وقناة السويس شمالًا، وبالتالي أي تهديد في الجنوب سينعكس على الشمال.
الثانية: الدائرة الأفريقية؛ حيث يمثل البحر الأحمر عمقاً استراتيجياً لعدد من الدول الأفريقية شديدة الأهمية مثل إثيوبيا التي فقدت موانئها عليه بعد استقلال إرتريا، بجانب ارتباطه بدائرتين مركزيتين للأمن القومي المصري هما القرن الأفريقي وحوض النيل، وزادت أهمية الدوائر المتقاطعة حول البحر الأحمر مع التنافس الإقليمي والدولي على الموانئ والقواعد العسكرية في الدول المطلة عليه سواء في اليمن أو جيبوتي أو إرتريا، وصولاً إلى السودان، بل استهداف الموانئ المصرية والسعي للسيطرة عليها من جانب بعض الأطراف التي دعمت وجود وبقاء نظام ما بعد 3 يوليو 2013. كما يرتبط بالبحر الأحمر وأهميته الاستراتيجية مركزية موقع شبه جزيرة سيناء، والأطماع الإقليمية والدولية في السيطرة عليها، وانعكاسات ذلك على سياسة مصر الخارجية وأنماط تحالفاتها المختلفة.
الثالثة: الدائرة المتوسطية؛ التي تربط مصر بالدول العربية المشرقية (سوريا، لبنان، فلسطين) ودول الجنوب الأوربي، وعبرها تعددت التهديدات والتحديات، سواء في موجات استعمارية متعاقبة، أو في أزمات وصراعات ممتدة، وقد زادت هذه الدائرة تعقيداً بعد انقلاب 3 يوليو مع إقدام «النظام الحاكم في مصر» على ترسيم الحدود البحرية والمناطق الاقتصادية مع كل من الكيان الصهيوني وقبرص واليونان، وتنازل عن مساحات ضخمة، تضم ثروات هائلة من الغاز الطبيعي، وهو ما فتح المجال لصراع مع تركيا حول عمليات الترسيم والتنقيب عن الغاز، من ناحية، وفتح المجال لتمدد عدد من الأطراف الإقليمية والدولية في ملف الغاز عبر ما سُمى «منتدى غاز شرق المتوسط». الذي تأسس في يناير 2019.
وأمام العوامل الثابتة مثل الموقع الجغرافي، التراث الحضاري، السكان والموارد الطبيعية، التي تتسم بالثبات النسبي- فإن هناك عددًا من العوامل المتغيرة التي تؤثر في السياسة الخارجية، منها: القيادة السياسية، النموذج السياسي للدولة، دور القوى السياسية والحزبية، دور المؤسسات الأمنية والعسكرية، والنخب السياسية والثقافية. والمجتمع المدني، وكذلك التحديات الخارجية.. والتي يتوقف مدى تأثيرها على ضعف وقوة الأوضاع الداخلية، وعلى الموقع الاستراتيجي للدولة، وعلى طبيعة النظام السياسي، والقيادة السياسية.
وقد انفردت مؤسسة الرئاسة في مصر بصنع السياسة الخارجية وتحديد توجهاتها العامة، بما يتناسب مع مصلحة نظام الحكم؛ حيث
احتكرت الرئاسة العديد من الملفات التي تراها حيوية، فقد اختلفت طريقة واستراتيجية كل من الرئيس محمد مرسي بعد ثورة يناير 2011، وعبد الفتاح السيسي بعد انقلاب 2013، في التعامل مع إدارة ملف السياسة الخارجية، ففي حين حاول الرئيس مرسي أن يُقيم علاقات مع الدول الفاعلة تقوم على مبدأ الندية والتكافؤ، وتعود بالمنفعة والفائدة على مصر أولاً وعلى الدول المستهدفة ثانيًا، جاء السيسي ليدفع بالسياسة الخارجية المصرية نحو مربع التبعية وعدم الاستقلالية لصالح عدد من الأطراف الإقليمية والدولية التي كانت شريكًا استراتيجيًا له في انقلابه العسكري، وأصبحت مصر أقرب إلى التابع الوظيفي الذي يستخدمها من يملك مفاتيح تمويلها لتنفيذ أجنداته في الإقليم.
وفي الوقت الذي حاول فيه الرئيس مرسي خلال العام الذي حكم فيه، توفير اهتمام متساوِ قدر الإمكان في تعامله مع الدوائر العربية والإسلامية والإفريقية للسياسة الخارجية المصرية، حيث حاول بناء جسور ثقة متبادلة مع الدولة العربية الأكثر تأثيراً في العالم العربي، وربما في المحيط الإسلامي، ضمن استراتيجية الانفتاح مع العالم الإسلامي وليس وفق اصطفاف دول ضدّ أخرى-
فإنه في المقابل عانت سياسة ما بعد الانقلاب من غياب الرؤية والاستقلالية؛ مما أفقد مصر دورها كفاعل رئيس في المنطقة، وجعل مصلحتها تدور في فلك مُمولي النظام، وارتبطت مصالح النظام بحجم علاقاته مع الكيان الصهيوني على حساب الأمن القومي للدولة.
وعلى الرغم من أن مصر تمتلك كل مقومات القوة الإقليمية الحقيقية والدور الإقليمي الفاعل، فإن الواقع الحالي للسياسة الخارجية المصرية بعد 11 عاماً من انقلاب 2013، يشير إلى تراجع ليس فقط في مكانة مصر الإقليمية والدولية، ولكن أيضاً في أرصدة قوتها الصلبة والناعمة، أمام العديد من الممارسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والإعلامية والأمنية والعسكرية التي قام بها نظام الانقلاب لتعزيز أمنه على حساب أمن الدولة.
إن مصر دولة تملك كل مقومات القوة الناعمة، فهي تملك التاريخ كرصيد حضاري، وتملك الموقع والثقل الديمغرافي في قلب الأمة العربية، والمؤسسة الدينية الأهم في العالم الإسلامي، والامتداد الاستراتيجي في قلب القارة الأفريقية، كما تملك قوة بشرية هائلة تتمتع بكل مقومات السبق العلمي والريادة الفكرية والثقافية، والتجربة الحضارية في العالم وليس فقط في المنطقة.
لكن هذه الأرصدة تآكلت أمام ترسيخ بنية الاستبداد في ظل نظام حاكم لا يريد أن يتنازل عن مركزيته؛ ليس فقط في إدارة العملية السياسية بل كذلك التحكم في حياة المصريين ومفاصل بقائهم شعبًا وأرضًا.
إن تحقيق سياسة خارجية مصرية فاعلة وقادرة على حماية المصالح الحيوية للدولة، واستعادة مكانة مصر الإقليمية والدولية، يحتاج إلى تغيير جوهري في بنية النظام العسكري الحاكم الذي ساهم ليس فقط في انهيار مكانة مصر؛ ولكن أيضاً في تفكيك دورها الإقليمي والدولي رغم كل ما يحيط بها من تحديات وأزمات عبر كل دوائر سياستها الخارجية.