التاريخ : الأحد 07 يوليو 2024 . القسم :

السودان الماضي والحاضر والمستقبل


السودان بحدوده الجغرافية قبل انفصال الجنوب في عام 2011م؛ هو نتاج غزو الخديوي محمد علي باشا حاكم مصر (1805/1849) صاحب النزعة التوسعية الطامح في تأسيس إمبراطورية خاصة تحت غطاء الخلافة العثمانية، كان غزوه للسودان في عام 1821م بجيش قاده ابنه إسماعيل باشا وصهره محمد بك الدفتر دار، ويمكن تلخيص أهداف محمد علي باشا من ذلك الغزو في:

  1. هدف عسكري يتمثَّل في البحث عن رجال لدعم جيشه الذي سيوطد حكمه ويبني إمبراطوريته.
  2. هدف اقتصادي غايته البحث عن الذهب في أقصى جنوب شرق السودان (جزء من تلك المناطق تتبع لدولة أثيوبيا حالياً).
  3. هدف أمني يعمد إلى تأمين منابع النيل.

قضى جيش محمد علي باشا على ممالك كانت في شمال السودان، ثم قصد إسماعيل باشا وسط السودان للقضاء على سلطنة (سنار) الإسلامية - وسط وجنوب شرق السودان الحالي - التي قامت بعد سقوط الأندلس باثني عشر عاماً فقط؛ في 1504م، واستمرت زهاء ثلاثة قرون.

وتوغل الدفتر دار فسيطر على غرب وسط السودان وجنوبه الحالي.

ورثت الدولة المهدية من بعد حكم السودان بعد انتصارات متتالية وفتوحات؛ انتهت بتحرير الخرطوم في عام ١٨٨٥م.

وكأن المهدية كانت إلى الثورة أقرب منها إلى الدولة، إذ نجحت في التحرير بقيادة إمامها الملهم محمد أحمد المهدي؛ لكنها في بناء الدولة وتأسيسها وتحقيق الاستقرار السياسي والرضا والتوافق المجتمعي، لم تحقق كبير نجاح، وخاصة بعد فقد قائدها الذي توفي بعد إنجاز التحرير بزمن قصير.

ثم سقط السودان كله تحت الحكم الإنجليزي الذي تدثَّر بثنائية مع مصر زائفة، لكن في حقيقة الأمر كانت مصر نفسها تحت حكم الإنجليز.  استمر ذلك الحكم من 1899م، وهو العام الذي أسقط فيه الإنجليز حكم خليفة المهدي حتى عام  1956م (57 عاماً).

وما إن نال السودان استقلاله حتى ظهرت آثار كيد المستعمر ومكر ليله ونهاره، فاندلع تمردٌ في جنوب السودان في العام 1955م، وتباعد ما بين شمال السودان وجنوبه بخطة استعمارية فصلت بين الشمال والجنوب بقانون (المناطق المغلقة)؛ حيث مُنِع التحدث باللغة العربية، ومُنِع لبس الأزياء الإسلامية، ومُنِعت الدعوة للإسلام، في الوقت ذاته الذي سُمِح فيه للكنائس الغربية أن تعمل، ولحملات التبشير أن تتحرك في حرية كاملة. وقد استمر هذا الوضع حتى حكم الرئيس عبود (1958/1964).

ومنذ الاستقلال دخل السودان في حلقة دائرية مستحكمة من الاضطرابات تبدأ لتعود من جديد.. فترة ديمقراطية ينقلب عليها عسكر، ثم يسقط حكم العسكر بانتفاضة شعبية، لتأتي فترة ديمقراطية جديدة ينقلب عليها عسكرٌ جدد، ثم تستمر الدائرة.

وما من شك أن في هذا شاهداً على فشل النخب السودانية جميعاً المدني منها والعسكري في التوافق السياسي، لكن يد الخارج لم تكن غائبة في تلك الفترات جميعاً.

وقد عمدت تلك اليد إلى سياسة استنزاف للسودان وإرهاقه أبداً، وكأن الوضع الذي لا يريد أصحابها أن يروا السودان في سواه هو وضع الاضطراب السياسي.. الاضطراب الذي لا تقوم معه نهضة، ولا يتحقق معه نماء، ولا يكون معه استقلال قرار في سياسة ولا اقتصاد.

لفهم الأزمة الحالية في السودان يحتاج المتابع أن يلتفت إلى جملة حقائق وإضاءات.

من تلك الحقائق طبيعة الجيش السوداني وتاريخه.

الجيش السوداني ترتيبه 75 عالمياً و11 عربياً. وقد ظل الجندي السوداني مطلوباً دائماً لشجاعته وبسالته وانضباطه العالي. فرنسا مثلاً استعانت بأورطة (كتيبة) سودانية في عام 1863م قوامها 435 جندي بالاتفاق مع الخديوي في مصر. عاد منهم إلى السودان بعد 4 سنوات فقط 313 جندي بعد استشهاد 140 في حرب استقلال المكسيك الذي كانت تدعمه فرنسا.

   شارك الجنود السودانيون في الحرب الأولى مع الحلفاء؛ ولكن سلطان دارفور (على دينار) الذي ظل مستقلا بدارفور أقصى السودان عن الاستعمار الإنجليزي انحاز للقتال مع الخلافة العثمانية. فتمت معاقبته وقُتِل في 1916م وضُمَّت دارفور بعده إلى الاستعمار الإنجليزي.

كانت الأحزاب السياسية السودانية تصل إلى السلطة في زي العسكر، أي أنها كانت تعمل داخل المؤسسة العسكرية، هذا الأمر لم يتخلَّف عنه حزب من الأحزاب من اليمين أو اليسار، وهذا النشاط الحزبي داخل المؤسسة العسكرية إن لم ينجح في الوصول إلى السلطة؛ فقد أحدث فيها بعض توترات وإن نجح فقد أرهقها بأعباء الحكم وأثقال تصريفه وهواجس تأمينه.

وهذا كله -لا شك- أقعد الجيش السوداني الذي كان مؤهلاً ليكون متقدماً جداً في كل ما يتصل بتطوير الجيوش بالنظر إلى طبيعته وإمكانياته. هذا الأمر استمر في كل عهود سودان ما بعد الاستقلال. ومهما يكن من نقد لتجربة الإنقاذ ولوضع المؤسسة العسكرية على زمانها؛ فإن الناظر المتجرد لاجتهادات التصنيع الحربي في هذه الفترة يُقِرّ بنجاحات حقيقةٍ بالاحتفاء. وربما كانت حقيقةً كذلك بالتفات الخارج الذي تسوؤه محاولات الاستقلال في التصنيع ويزعجه أكثر أن يكون تصنيعاً حربياً، وهو المجتهد أبداً في إضعاف جيوش المنطقة العربية والأفريقية.

من الحقائق والإضاءات كذلك لفهم طبيعة الأزمة السودانية الحالية؛ التعرف إلى موارد السودان التي ظلت محل أطماع من قديم ... وليس من ضروب المبالغة والتضخيم أن يقول قائل: إن السودان تجتمع له من الموارد ما لا يجتمع عند غيره.. المورد الواحد منها كافٍ لنهضة السودان وضامنٌ لرفاهية شعبه لو تحقق له استقرار سياسي.

فالسودان يجتمع عنده من ثروات باطن الأرض الذهب واحتياطيات من الفضة والمايكا والتلك والمنجنيز والكروم والبلاتين والنفط والغاز.

ثم هو يملك 84 مليون هكتار صالحة للزراعة؛ المستغل فعلياً منها 20% فقط أو أقل. وهذه ال 20% نفسها أكثر من 80% منها يعتمد على الري المطري في بلد يشقه أطول أنهار القارة الأفريقية وأعظمها.. وفيه سوى النيل أنهار أخرى.. وله مصادر مياه من غير الأنهار.

والسودان له من ثروات الأنعام 30 مليون رأس من الأبقار غير مستغلة الاستغلال الأمثل في إنتاج اللحوم والألبان.

وفيه 40 مليون رأس من الأغنام غير مستغلة كذلك أحسن استغلال في إنتاج اللحوم والألبان. وقل مثل ذلك في 32 مليون رأس من الماعز.

ثم له 15 مليون رأس من الإبل أكثرها يُصدَّر للخارج لجودة لحومها ولمهارتها في السباقات بدرجة أقل.

وفي السودان تعدد في المناخ وتنوع فيه يتيح ألواناً شتّى من النشاط الرعوي أو الزراعي.. وفيه ثروة سمكية.

وغير خافٍ أن السودان هو المصدر الأول للصمغ العربي الذي لا تستغني عنه صناعة من الصناعات في العالم.

إذن نحن نتحدث عن دولة عظمى في الموارد، فقيرة جداً على أرض الواقع، وبعدد سكان لا يتجاوز 45 مليون نسمة.

سبق الحديث عن أن السودان لم يُكتب له استقرار سياسي منذ استقلاله ...وأن الأحزاب السياسية كانت تستغل المؤسسة العسكرية (الجيش) للوصول إلى السلطة.. وأن النشاط الحزبي داخل مؤسسة الجيش ومحاولات الوصول به إلى السلطة لم يتخلَّف عنه حزب من الأحزاب السياسية السودانية من اليمين أو من اليسار..

لكن الجديد في مشهد الأزمة السودانية الحالية هو قوات الدعم السريع.

الدعم السريع عموده الفقري وأساسه قوة قبليّة (عربية من دارفور) تم إنشاؤها في عام 2013م في عهد الرئيس البشير بعد انفصال الجنوب وفقدان بتروله وازدياد نشاط الحركات المتمردة في دارفور (عدداً ومساحة). وكانت معظم الحركات المتمردة من إثنيات أفريقية غير عربية ولها عداء مع عرب الجوار.

بعد الانتفاضة أو الثورة على نظام البشير في عام 2019م، وحتى الحرب في 15 أبريل 2023 تعاظم دور الدعم السريع؛ فصار:

  1. أكبر قوة اقتصادية في البلاد (تصدير الذهب واللحوم الحية والمذبوحة والمنتجات الزراعية) ويستورد كل شيء تقريباً حتى الوقود.
  2. أقوى قوة عسكرية؛ سيطر على كل المرافق الاستراتيجية بالعاصمة ...وصار يملك كل أنواع الأسلحة عدا الطيران.
  3. علاقات دولية خارج مؤسسات الدولة مثال العلاقة مع الإمارات (في الحقيقة هذه أتاحها له البشير نفسه أول الأمر على أيام عاصفة الحزم وحرب اليمن؛ كما أتاح له علاقات مع الاتحاد الأوربي بدخول الدعم السريع في مكافحة الهجرة غير الشرعية إلى أوربا) وعلاقات مع ليبيا وتشاد وقوات فاغنر الروسية.
  4. دور سياسي.. حيث صار قائد الدعم السريع الرجل الثاني في المؤسسة الرسمية والائتلاف الحاكم لشريكي الحكم العسكريين والمدنيين من 2019م حتى الحرب.

مع بداية الحرب في ١٥ أبريل ٢٠٢٣م سيطر الدعم السريع على غالب أنحاء العاصمة السودانية وعلى غالب المرافق العسكرية عدا (القيادة العامة والمدرعات بالخرطوم ومنطقتي المهندسين وكرري بأمدرمان وسلاح الإشارة ببحري)؛ لأنه كان الأكثر استعداداً عدة وعتاداً.. ولأن أكثر المواقع الاستراتيجية التي احتلها كان هو فيها ابتداء من قبل الحرب بدعوى حراستها. كل ذلك كان في الأشهر الأولى من الحرب.

متغيرات كثيرة حدثت مع تطاول أمد الحرب في الميدان العسكري وفي موازين القوى. لكن الذي لا شك فيه أن الحرب قد استنزفت موارد الدولة الضعيفة ابتداءً.. وبلغت خسائر الدولة والقطاع الخاص والمواطن قرابة 200 مليار جنيه خلال العام الأول.

نزح 8.1 مليون نازح إلى داخل السودان (إلى المناطق التي يسيطر عليها الجيش)، ولجأ وهاجر 2.25 مليون مهاجر للبحث عن الأمن وعن فرص للعمل وكسب العيش.

قرابة 13 ألف قتيل من القوات المسلحة و100 ألف قتيل من الدعم السريع وعدد كبير من القتلى والجرحى من المدنيين.

507 حالات اغتصاب موثقة (معظم الحالات لا يتم التبليغ عنها). كل الحالات الاتهام فيها موجه لأفراد من الدعم السريع.

دخول لبيوت المواطنين ومتاجرهم ومحلات أشغالهم ونهب لممتلكاتهم وبخاصة السيارات والموتر... تقدر السرقات فيها بــــــــــ 203000 سرقة (كل أنواع العربات من الشاحنات إلى أصغر عربة إلى الموتر) كل هذه السرقات الاتهام فيها من المواطنين موجه إلى أفراد من الدعم السريع.

كل هذا أورث وضعاً إنسانياً معقّداً جداً وصعباً في غياب شبه كامل من المؤسسات الإغاثية والصحية العالمية وانشغال العالم بالحرب الأوكرانية والحرب ضد قطاع غزة.

الحرب التي تدور الآن في السودان حرب على الدولة من قوات الدعم السريع المدعومة من دولة الإمارات التي ابتزّت كل دول الجوار للوقوف في صف الدعم السريع في حربه ضد الجيش السوداني.. وفي حقيقة الأمر ما الدعم السريع ولا الإمارات نفسها في هذه الحرب غير أدوات في مشروع تقسيم السودان إلى دويلات صغيرة متصارعة؛ وهو مشروع تقف من خلفه الإدارة الأمريكية.

وعلى هذا فليست الحرب بموجهة فقط ضد جيش السودان؛ بل هي ضد السودان جميعاً أرضاً وإنساناً.. واعتداءات الدعم السريع التي تقع على المدنيين في المناطق التي ليست فيها معارك عسكرية؛ بل ليس فيها من الأساس قوة عسكرية شاهدة على هذا.. وقع هذا في ولاية الجزيرة وفي ولاية غرب دارفور من قبل، وفي المثالين انسحبت القوات المسلحة؛ فاستباح الدعم السريع كل شيء، وأعمل في الناس القتل وتوجّه إليهم بالنهب والسلب؛ الأمر الذي جعل المواطنين في الولايات الأخرى يتجهون إلى حمل السلاح، وينتظمون في المقاومة الشعبية وفي حملات الاستنفار العام لحماية دمائهم وأموالهم وأعراضهم.

الخيارات المحتملة لنهاية الحرب:

  1. الذهاب إلى تفاوض كما حدث العام الماضي (منبر جدة) الذي لم يلتزم الدعم السريع بما تم الاتفاق عليه في الاتفاق الأوّلي.
  2. أن تنتصر القوات المسلحة ولو بعد حين وبتكلفة عالية؛ فيخرج الدعم السريع من العمل السياسي والعسكري، وهذا بالطبع الخيار الأمثل للجموع الغالبة من الشعب السوداني.
  3. أن ينتصر الدعم السريع.. وهذا أسوأ احتمال وشر غائب ينتظر.. وحينها سيتم تقسيم السودان إلى أربع دويلات متصارعة.. مما يمثِّل تهديداً للإقليم بصفة عامة، وللشقيقة مصر بصفة خاصة.. ومصر تستشعر خطر انتصار الدعم السريع على أمنها القومي ولكنها تجتهد بحياء في دعم القوات المسلحة وعينها على الإمارات التي تستغل الأزمة الاقتصادية في مصر.

ومن شواهد أن مصر تتعرض لضغوط في ما يتصل بأزمة السودان الحالية؛ أنها كانت قد دعت القوى السياسية السودانية إلى مؤتمر في القاهرة نهاية يونيو، وهي دعوة قوبلت بترحيب وموافقة من الحكومة السودانية؛ لكن الدعوة تأجَّلت فجأة. حفظ الله السودان أرضاً وشعباً.

أمية يوسف حسن أبو فداية

باحث: متخصص في شؤون القرن الأفريقي