التاريخ : الثلاثاء 09 يوليو 2024 . القسم :
دعوة الإخوان ومواجهة التغريب القيمي
تجذب الدراما بأشكالها المتعددة (سينما /مسرح /تلفزيون / إذاعة) شرائح المجتمع بصفة عامة. وحتى فترة ليست بالبعيدة كان الإنتاج الدرامي مقصورا على الوسائل التقليدية؛ لكن مع ظهور مواقع التواصل الاجتماعي أصبح في متناول الجميع تجهيز موضوعات للدراما وعرضها للجمهور. فلم يعد الأمر مقتصرا على الإنتاج الضخم.. فضلا عن ظهور منصات للإنتاج الدرامي؛ عربية وأجنبية، تعرض ما يُنتج لها خصوصا، وما تشتريه أو تنتجه للوسائل التقليدية.
وتمثل الدراما منذ نشأتها جزءا أساسيا من الحياة الاجتماعية، وينظر لها البعض على أنها تقدم الحياة بتفاصيلها ومشكلاتها: فالدراما أسهمت في بناء النسق القيمي لإنسان العصر الحديث، وأسهمت في تغيير نمط الإدراك واتجاهات المعرفة لدى قطاعات عريضة من أفراد المجتمع، فهي أداة من أدوات التأثير في المجتمعات، وتكمن سطوتها فيما تتمع به من مقومات لجذب الانتباه والتأثير الفعال النابع من تجسيد الواقع الموازي للحياة وقضايا الإنسان بكافة أشكالها ومستوياتها.
والأصل أن الدراما تعكس واقعا مجتمعيا تستطيع من خلاله أن تعدل السلوكيات الخاطئة، وترسي قواعد تعزز الانتصار لقضايا الإنسان، وتدعم اختياراته. فلا شك أن قضايا الإنسان واحدة، فالاجتهاد والمثابرة والإيمان بعقيدة ما أو دين ما والإخلاص والخيانة الغريزية والغدر والطموح والنجاح والفشل والحزن وما إلى ذلك كلها قيم إنسانية تأخذ صيغا مختلفة حسب ظروف وقناعات المجتمع، ودور الدراما هنا هو معالجة هذه القضايا، لتعزيز السلوك وفق البناء القيمي للمجتمعات، ولكن كيف عززت الدراما التي يتعرض لها المشاهد العربي والمسلم؛ النسق القيمي لمجتمعاتنا؟
بداية ما معنى النسق القيمي؟
النسق القيمي هو الموجه للسلوك العام للمجتمعات، فهو يقرر مدى قبولها أو رفضها لقيمة معينة، بمعنى أن أي تغيير في النسق القيمي يترتب عليه تغيير في سلوكيات الفرد من نمط إلى آخر، وهذا يعني أن السلوك يتشكل استنادا إلى النسق القيمي، فأي تغيير في النسق القيمي يترتب عليه تغيير في السلوك من النمط السائد إلى النمط المستحدث.
ويتكون النسق القيمي من: المكون المعرفي، والمكون الوجداني، والمكون السلوكي؛ وما يرتبط بها من اختيار وتقدير وفعل، فالمعرفة تقود إلى الاختيار، والوجدان يقود إلى التقدير، والسلوك يؤكده الفعل والممارسة العملية.
العلاقة بين الرجل والمرأة مثالا توضيحيًّا لمتغير النسق القيمي :
يقوم النسق القيمي للعلاقة بين الرجل والمرأة في البناء الإسلامي على مرتكزات المودة والرحمة والشراكة في الأجر؛ مع اختلاف الأدوار التي حُددت بالقوامة. وللقوامة مقياس معياري وضَّحه المولى عز وجل (الرجال قوامون على النساء بما فضل الله به بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم ...) فالعلاقة بين الرجل والمرأة في الإسلام ليست علاقة تعاقد مصلحي؛ ولكنها علاقة العشرة بالمعروف، كما قال الله تعالى (وعاشروهن بالمعروف). وهي علاقة تراحمية، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم (استوصوا بالنساء خيرا فإنهن عوان عندكم)، (ما من امرأة تصلي لله وتصوم وتحافظ على فرجها وتطيع زوجها إلا كان لها منه من الجنة منزلة) رواه الترمذي.
ولكن الدراما حين صاغت تلك العلاقة وخصوصا في الألفية الأخيرة جنحت إلى المفهوم الغربي للعلاقة بين الرجل والمرأة، وبَنت نسقا قيميا- بعيدا عن التصور الإسلامي - عزّز من ثنائية الأنا (المرأة) والآخر (الرجل)، وهي ثنائية صلبة في ذاتها لا تخضع لأية مرجعية مشتركة بينهما يحتكمان إليها. فالجوهر الإنساني بينهما انعدم باختفاء التراحم، أو كما يقول الدكتور المسيري رحمه الله: (لقد تمركزت المرأة حول ذاتها، وخرجت لتحقيق تلك الذات خارج أي إطار اجتماعي؛ لتصنع صراعا كونيا أزليا مع الرجل).
الدراما عززت التغريب عن النسق القيمي للأمة :
لم تكن العلاقات الأسرية (المرأة /الرجل) فقط هي الهدف الوحيد الذي استُخدم لتدمير المجتمعات، بل نالت موجات التغريب من الجسد البشري الذي تحول إلى سلعة يتم عرضها على الشاشات ومواقع التواصل الاجتماعي، فأصبح الإنسان (ذكر /أنثي) في المخيلة الذهنية مجرد صورة تكتسب قيمتها من الشكل الخارجي، فالمقاييس الجسدية هنا مقاييس آليه هندسية وظيفية تناسب الدور المنوط بها، وهو العرض من أجل الإثارة الغريزية، ومن ثم الترويج عبر المواقع الإباحية. فهي دائرة متكاملة (معايير آلية – ترويج لمنتجات تساعدك للوصول للمعيار – أفلام تقدم الفتى المعيار – مداعبات انتقالية للغريزة- الوقوع في فخ الإباحية وإدمانها).
دور الدراما هنا كان تعزيز فكرة فتى الأحلام وفتاة الأحلام، وإنتاج الرومانسية في البدايات، لنصل إلى مرحلة الأيدلوجيا التحريرية التي ربطت بين الحرية وتعرية الجسد، لتتحول المنظومة الجنسية القائمة في الإسلام على العفة والعلاقة داخل إطار الأسرة، تتحول إلى حالة من الفوضى الجنسية والعلاقات المنحرفة، وتنطلق أيضا إلى حرية اختيار النوع والمساكنة.
والراصد للمنتجات الدرامية بمختلف وسائلها سيجد أنها عززت -خلال السنوات العشر الأخيرة- الفوضى الأخلاقية والسلوكية، بنشرها مضامين ورسائل تحضُّ على التطبيع مع التفكك الأسري، والعنف، والانحرافات السلوكية (زنى، مخدرات، مساكنة)، والتشكيك في جدوى مؤسسة الزواج، والتطبيع مع فعل قوم لوط (مصطلح المثلية الجنسية)، وإضعاف وتهميش دور الأب ورجل الدين، والسخرية من الأحكام الشرعية ومظاهر السُّنة النبوية، والتشكيك في بعض الأحاديث بهدف هدم السُّنة المطهرة، والاستهتار بقيم العفة والطهارة والعذرية، والسخرية من كل المؤسسات الدينية، فيما عدا مؤسسة الكنيسة.
هذا على مستوى الدراما التي تنتج عربيا. ويحضرني هنا شهادة أدلى بها الممثل حسن يوسف في جلسة خاصة عام 1998 أثناء إنتاج مسلسل تاريخي كنت مشرفا على إنتاجه، حيث شهد أن موجة الأفلام زائدة العري التي ناقشت قضايا حرية الجسد وفوضى الرغبة الجنسية في السبعينيات، والتي عملت على فكرة تحرر البنات وخروجهن على مؤسسة الأسرة والتمرد عليها- كانت كلها بتمويل من الكنيسة المصرية ومؤسسات تابعة لها؛ وقال نصًّا في شهادته (كان الفيلم يتكلف مائة ألف جنيه فيتم منح المنتج مائة وأربعين ألفا، تشجيعا له على الإنتاج وتوفير الربحية).
إذًا ما هو الدور الدعوي المطلوب لمواجهة هذه الأزمة؟
لابد أولا أن نعترف أن لدينا أزمة حقيقية في تقدير وفهم دور الفن في بناء أو هدم المجتمعات، وأننا منذ عام 1995 مقصرين تماما في حق الدعوة العامة، وهذا التاريخ ليس عبثا، فهو تاريخ نزع المساجد من ايدي الإخوان، ومنع دعاتهم من إلقاء الدروس وتسليمها للسلفيين، وحصر الإخوان في الدور السياسي البرلماني تحديدا، وترك الدعاة من كل تيار يظهرون وزادوها بموجة عمرو خالد (الدعاة الجدد).
فمنذ ذلك التاريخ كان حريا بنا أن نبدأ عملا مختلفا؛ جناحيه الفن والإعلام. وعند خروجنا من مصر كان لابد أن نؤسس للإنتاج الفني جنبا إلى جنب مع تأسيس الفضائيات. ولا أعني هنا التأسيس للإنتاج الفني بالطرق العشوائية كما حدث وأنتجنا بعضا من الدراما التي لم تقطع ذنب عنزة، أو تؤسس لمتغير قيمي مجتمعي، بل دارت في نفس فلك الفضائيات، وصبت في خانة واحدة هي لعن الانقلاب ومأساة الإخوان مع دولة الانقلاب. لقد ضخت أموال طائلة في أعمال أقل ما توصف به أنها مجرد لطميات في مواكب أربعينية أُنتجت لترضي الممول ونشاهدها نحن ودوائرنا.
الآن علينا أولا أن نوجد الرغبة والإرادة لنعود ونتواصل مع عموم الناس، وهذا يتأتى بجملة شروط:
حث رؤوس الأموال على تكوين مؤسسة فنية كبرى عن طريق الاكتتاب الذي تسهم فيه الجماعة بسهم.
تكوين لجنة فنية تعمل على تحويل القيم والأهداف العامة للدعوة إلى مسارات فنية مختلفة، ومن ثم تحويلها إلى أعمال فنية تصلح لدعوة المجتمع لا لإرضاء الصف.
دراسة كل ما قدم خلال السنوات الماضية من أعمال هدمت القيم وتحليلها، ودراسة حجم الأثر الذي تركته في عموم الأمة.
اعتبار أن سهم الإنتاج الفني هو سهم دعوي لا يقل عن غيره من الأسهم التي ينفق فيها المال.
إنشاء منصات فنية مختلفة لعرض ما يقدم من منتجات.
إن النظام الذي يحكم الثقافة الإسلامية نظام معياري، يمكن قياسه على الأفراد والمجتمعات، فهو قائم على بنية تفكير اشتراطية تجعل احتياز السعادة الأخروية الدائمة، والدنيوية الزائلة، مرتهناً باتباع القوانين التي سنَّها الله عز وجل في كتابه، وبيَّنها النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث المطهرة، فمدى تمسك المجتمعات وقربها من تلك البنية المعيارية هو مقياس التماسك في مواجهة الغزو الثقافي أو الهزيمة أمام الهجمة التي تجتاح تلك المجتمعات، لذا لابد من تكوين لجنة تجمع أهل التخصص في الفن والإعلام مع مجموعة من العلماء لتضمين النسق القيمي لكل مناحي الحياة في الإسلام؛ ليتم رفعها بعد ذلك للجنة الإنتاج الفني. بذلك يمكننا أن نقاوم التغريب.
إمام الليثى
ناقد فني