التاريخ : الاثنين 15 يوليو 2024 . القسم : رسالة الأسبوع

" نحن أحق وأولى بموسى منكم "


قال الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُم بِأَيَّامِ اللَّهِ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ﴾ [ سورة إبراهيم :5].

يقول الأستاذ سيد قطب رحمه الله: «وكل الأيام أيام الله؛ ولكن المقصود هنا أن يذكرهم بالأيام التي يبدو فيها للبشر أو لجماعة منهم أمر بارز أو خارق بالنعمة أو بالنقمة؛ كما سيجيئ في حكاية تذكير موسى لقومه.  وقد ذكرهم بأيام لهم، وأيام لأقوام نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم.  فهذه هي الأيام. ففي هذه الأيام ما هو بؤسى فهو آية للصبر، وفيها ما هو نعمى فهو آية للشكر.  والصبار الشكور هو الذي يدرك هذه الآيات، ويدرك ما وراءها، ويجد فيها عبرة له وعظة؛ كما يجد فيها تسرية وتذكيرا». 

في شهر الله المحرم نجّى الله موسى عليه السلام وقومه من فرعون وقومه، وقد ابتلى الله موسى بفرعون منذ طفولته؛ بل قبل أن يولد موسى؛ فالله عز وجلّ لحكمة يعلمها؛ جعل موسى يتربى في قصر فرعون الطاغية الجبار؛ وألان له قلب امرأة فرعون فتعلقت به، وكانت سببا في ألَّا يقتله فرعون: ﴿وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ ۖ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَىٰ أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ [ القصص:9].

قال ابن كثير: «يعني: أن فرعون لما رآه هم بقتله خوفا من أن يكون من بني إسرائيل فجعلت امرأته آسية بنت مزاحم تحاج عنه وتذب دونه، وتحببه إلى فرعون، فقالت: (قرة عين لي ولك) فقال: أما لك فنعم، وأما لي فلا. فكان كذلك، وهداها الله به، وأهلكه الله على يديه... وقد حصل لها ذلك، وهداها الله به، وأسكنها الجنة بسببه. وقوله تعالى: (وهم لا يشعرون) أي: لا يدرون ما أراد الله منه بالتقاطهم إياه، من الحكمة العظيمة البالغة، والحجة القاطعة».

روى الشيخان عن عبْدُاللهِ بنُ عبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عنهما قال: ((قَدِمَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ المَدِينَةَ، فَرَأَى اليَهُودَ تَصُومُ يَومَ عاشُوراءَ، فَقالَ: ((ما هذا؟))، قالوا: هذا يَوْمٌ صَالِحٌ؛ هذا يَوْمٌ نَجَّى اللَّهُ بَنِي إسْرَائِيلَ مِن عَدُوِّهِمْ، فَصَامَهُ مُوسَى، قالَ: ((فأنَا أحَقُّ بمُوسَى مِنكُمْ))، فَصَامَهُ، وأَمَرَ بصِيَامِهِ)). (رواه البخاري ومسلم).

وفي رواية لأبي داود: ((حِينَ صَامَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ يَومَ عَاشُورَاءَ، وَأَمَرَ بصِيَامِهِ، قالوا: يا رَسولَ اللهِ، إنَّه يَوْمٌ تُعَظِّمُهُ اليَهُودُ وَالنَّصَارَى، فَقالَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ: ((فَإِذَا كانَ العَامُ المُقْبِلُ إنْ شَاءَ اللَّهُ صُمْنَا اليومَ التَّاسِعَ))، قالَ: فَلَمْ يَأْتِ العَامُ المُقْبِلُ، حتَّى تُوُفِّيَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ)). (رواه). قال العلماء: أي لأصومنَّ التاسع والعاشر مخالفة لليهود.

فقوله صلى الله عليه وسلم: «نحن أحق وأولى بموسى منكم». يدلُّ على وحدة الرسالات السماوية، وأن العقيدة التي تجمع الأنبياء والرسل جميعاً واحدة، تقوم على عبادة الله وحده لا شريك له، وإن اختلفت شرائعهم. قال تعالى: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّـهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّـهِ فَإِنَّ اللَّـهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ [آل عمران:19]. وقال تعالى: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّـهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّـهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 64].

ونتعلم من هذه الحادثة:
1-  أن الله تعالى يبتلي عباده المؤمنين ابتلاء تمحيص وتهذيب، وأشدُّ الناس بلاءً الأنبياءُ، ثم الأمثل فالأمثَل، وأن من صفات عباد الله تعالى وأوليائه الصبر على البلاء.

2-  أن الله عز وجل إذا أراد أمرًا قضاه فلا بد أن يكون، وأننا يجب أن نؤمن بالقضاء والقدر ونحققه؛ حتى نحصل على الراحة والطمأنينة في الدنيا، والثواب في الآخرة.

3- أن الذين يجاهرون بالعداوة لله ولرسوله ولعباده المؤمنين يسعون لحتفهم، وهلاكهم في الدنيا والآخرة، وأن الكبر والتجبُّر على المستضعفين وعلى عباد الله، عاقبته إذلال الله للمتكبرين.

4- أنَّ الحق له نور ساطع يعرفه أهل الفطر السليمة، أما الباطل فإنه غثاء كغثاء السيل، ولا بد يومًا أن يزول ويضمحل. ﴿ بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ ۚ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ﴾ [سورة الأنبياء:18]. 

5- أنَّ من توكَّل على الله كفاه، ومن استنصرَ به نصره، ومن استعان به أعانه وهداه، ومن لجأ إليه في الرخاء وجده في الشدة، وانظروا إلى قول موسى عليه السلام: ﴿قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾ [الشعراء: 62].

6-  أن الإيمان بالله تعالى إذا وقر في قلب المؤمن فإنه يستهين بكل ما يحصل له من الأذى في سبيل الله عز وجل؛ لأنه مؤمن بوعد الله تعالى له في الجنة. وانظروا إلى سحرة فرعون عندما آمنوا بموسى عليه السلام، وتوعَّدهم فرعون؛ استهانوا به وبوعيده، وقالوا له في عزة المؤمن الواثق: ﴿فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا﴾ [طه: 72].

7- أن نجاة موسى عليه السلام وقومه من عدوِّ الله فرعون وجنوده نعمة كبرى تستوجب الشكر لله عز وجل، ومن شكر الله تعالى على هذه النعمة صيام اليوم العاشر من هذا الشهر شهر المحرم، والأفضل أن يُصام يومٌ قبله مخالفةً لليهود، كما حدَّث بذلك النبي صلى الله عليه وسلم.

8- أن الصيام من أحب العبادات إلى الله، وأجلّ القربات التي يتقرب بها العبد لربه عز وجل؛ ولذلك فإن أجره كبير، وفضله عظيم.

والإمام البنا رحمه الله يذكرنا في رسالة (إلى أي شيء ندعو الناس) بقصة بني إسرائيل في القرآن؛ ترسم للأمم طريق التكوين بين الحرية والاستعباد، وكيف يكون الصراع بين الحق والباطل، ثم يكون في النهاية البقاء للأصلح.

يقول:
شرائط تكوين الشعوب والأمم (قصة أمة تتكون):

1-ضعف: «نحن الآن أمام جبار متكبر(فرعون) يستعبد عباد الله ويستضعفهم ويتخذهم خدما وحشما وعبيدا وخولا، وبين شعب من الشعوب الكريمة المجيدة استعبده ذلك الطاغية الجبار، ثم أراد الله تبارك وتعالى أن يعيد لهذا الشعب المجيد حريته المسلوبة وكرامته المغصوبة ومجده الضائع وعزه البائد؛ فكان أول شعاع من فجر حرية هذا الشعب إشراق شمس زعيمه العظيم (موسى) على الوجود طفلا رضيعا 

2-زعامة: ونحن بعد هذا أمام هذا الزعيم وقد بلغ أشده واستوى، وتولته العناية الإلهية، بعد أن أنفت نفسه الظلم وعافت الضيم، ففر بنفسه وهرب بحريته، حيث اصطنعه الله لنفسه وحمله عبء رسالته، وأسند إليه خلاص شعبه، فآب مملوءا بالإيمان مؤيدا باليقين، يواجه ذلك الجبار فيطلب إليه أن يعيد إلى شعبه حريته ويترك له كرامته ويؤمن به ويتبعه.

3-صراع: ونحن الآن نشهد غضبة القوة على الحق كيف تثور عليه وتنتقم منه وتعذب أهله وتقهر مناصريه، ثم كيف يصبر أهل الحق على كل ذلك، وكيف يعللهم رؤساؤهم بالآمال الحلوة والأماني العذبة حتى لا يجد الخور إلى نفوسهم سبيلا.

4-إيمان: وما أروع أن نشهد ذلك النموذج الخالد من الثبات والصبر، والاستمساك بعروة الحق، والاستهانة بكل شيء حتى الحياة في سبيل الإيمان والعقيدة من أتباع هذا الزعيم الذين آمنوا بدعوته، وقد تحدوا هذا الجبار في استهانة واستماتة: ﴿فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ ۖ إِنَّمَا تَقْضِي هَٰذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ ۗ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾ [طه: 72-73].

5-انتصار: فإذا رأينا كل ذلك رأينا عاقبته في القسم الخامس وما أدراك ما هي؟ فوز وفلاح وانتصار ونجاح وبشرى تزف إلى المهضومين، وأمل يتحقق للحالمين، وصيحة الحق المبين تدوي في آفاق الأرض ﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنجَيْنَاكُم مِّنْ عَدُوِّكُمْ ٰ﴾ [طه:80]. 

ولما أمرهم موسى بدخول الأرض المقدسة «جبنت نفوسهم عن مقارعة عدوهم، فرهبوا قوته، وخافوا بأسه... وكلما أهاب بهم زعيمهم موسى على احتمال الشدائد، والصبر على المكاره، وهوّن عليهم أمر هذا العدو، وذكرهم نعمة الله عليهم ليحيي بالإيمان نفوسهم... جمحت بهم طباعهم، وأبوا إلا الارتكاس عن الفضيلة ، والرضا بالرذيلة، وإعطاء الدنية، وتلك جريرة لا يرضاها الله؛ وهي ضعف في النفوس ووهن في القلوب ران على قلوبهم... لهذا قضى الله عليهم أن يظلوا هائمين على وجوههم في الصحراء الحرة الطليقة أربعين سنة، يموت فيها من ألفوا المذلة، وانطبعت نفوسهم على المهانة، وينشأ الجيل الجديد حرًّا من القيود، بعيدا عن الأصفاد ... لا يخاف إلا ربه، ولا يخشى إلا ذنبه، ولا يدين لأحد ولا يتعبد لمخلوق، فما أجملها عقوبة في طيها رحمة فيها تربية وإرشاد ... حتى إذا ما صقلت النفوس وطهرت الأرواح ، وأحرقت الحرية المتيقظة فضلات الجبن، هناك ترى نفسك... أمام أمة كريمة عزيزة أورث الله بنيها مشارق الأرض ومغاربها، وتمت عليهم كلمة ربك الحسنى بما صبروا».

إنّ نجاة موسى وقومه الذين آمنوا به من فرعون وبطشه؛ كانت معجزة من الله عز وجل، ليعلم أهل الدعوات على مرّ العصور أن الله سبحانه بيده الأمر كله ﴿يدبر الأمر﴾ [السجدة:5]، فلا يخافون من بطش الظلمة وأعوانهم مهما علا شأنهم، ويعملون لإعلاء دين الله في الأرض مهما كلفهم ذلك، ويعلمون أنه لن يكون في كون الله إلا ما قدره الله عز وجلَّ. فتسري الطمأنينة في نفوسهم، وتتنزل الرحمة على أفئدتهم، وتملأ السكينة قلوبهم، فلا يخشون إلا الله ﴿مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا﴾ [الأحزاب:23]. ويعلمون أن ما عند الله هو الخير؛ فالله خير وأبقى.
اللهم كما نجَّيت موسى وقومه من فرعون في يوم عاشوراء؛ نجِّ شعب غزة وفلسطين من الصهاينة المجرمين. 
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين
والله أكبر ولله الحمد

جماعة الإخوان المسلمون - قسم التربية

الإثنين 9 محرم 1446هـ؛ الموافق 15 يوليو 2024م