التاريخ : الجمعة 13 سبتمبر 2024 . القسم :

في ذكرى مولده ﷺ.. الرسول المجاهد وطوفان الأقصى


يقول الإمام البنا عن النبي العظيم ﷺ: «أي قلم يحيط وصفه ببعض نواحي تلك العظمة النبوية، وأية صحيفة تتسع لأقطار هذه العظمة التي شملت كل قطر، وأحاطت بكل عصر، وكُتِب لها الخلودُ أبد الدهر، وأي مقال يكشف لك عن أسرارها، وإن كتب بحروف من النور، وكان مداده أشعة الشمس! على أنك تعجب حين ترى هذه العظمة التي فاقت الأوصاف، وتعالت عن متناول الألسنة والأقلام والعقول والأفهام ماثلة في كل قلب، مستقرة في كل نفس، يستشعرها القريب والبعيد، ويعرف بها العدو والصديق، وتهتف بها أعواد المنابر، وتهتز لها ذوائب المنائر. كما قال حسان بن ثابت:

ألم تر أن الله خلَّد ذكره إذا قال في الخمس المؤذن أشهد.

وشقَّ له من اسمه ليُجلَّه فذو العرش محمود، وهذا محمَّد

إن شخصية الرسول ﷺ وسيرته الجامعة الشاملة العاطرة، جعلها الله –سبحانه وتعالى- موضوع الأسوة لكل من ينشد الأسوة في هذه الحياة، وفي هذه الشخصية، وذلك أن الرسل الذين بعثهم الله قبل محمد ﷺ بعثهم لفترة محدودة من الزمن، تنتهي الرسالة وتعقبها رسالة أخرى ولقومٍ معينين، ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ﴾ [الأعراف: 59]. وقال تعالى ﴿وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ﴾ [العنكبوت: 16]. وكذلك موسى وعيسى، كل الأنبياء أُرسلوا إلى أقوام محددين. أما رسالة محمد ﷺ فامتازت بأنها رسالة عامة وخالدة، وشاملة، عمومٌ في المكان وخلودٌ في الزمان، وشمولٌ في أحوال الإنسان، عبَّر عن هذا المعنى الإمام حسن البنا بعبارة قوية بليغة قال: «إنها الرسالة التي امتدت طولاً حتى شملت آباد الزمن، وامتدت عرضاً حتى انتظمت آفاق الأمم، وامتدت عمقاً حتى استوعبت شؤون الدنيا والآخرة». لقد كان رسول الله ﷺ كُفئًا للرسالة التي بُعث بها؛ فجعل الله في سيرته ﷺ ما يكافئ هذه الرسالة العامة، الخالدة، الشاملة، فجعل لكل إنسان موضعًا في التأسي به والاقتداء بحياته ﷺ، فشاء الله أن يكون فيه- في حياته- موضع أسوة لكل من يقتدي به. ﴿ لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾ [الأحزاب: 21].

رسول الله أسوة للمجاهدين أراد الله له أن يعاني الجهاد بأنواعه:

إن الله -عز وجل- جعل رسوله محمدا أسوة. قال صاحب تفسير التحرير والتنوير: «فَقِيلَ: في رَسُولِ اللَّهِ إِسْوَةٌ. وجُعِلَ مُتَعَلِّقُ الِائْتِساءِ ذاتَ الرَّسُولِ ﷺ دُونَ وصْفٍ خاصٍّ لِيَشْمَلَ الِائْتِساءَ بِهِ في أقْوالِهِ بِامْتِثالِ أوامِرِهِ واجْتِنابِ ما يُنْهى عَنْهُ، والِائْتِساءَ بِأفْعالِهِ مِنَ الصَّبْرِ والشَّجاعَةِ والثَّباتِ».

وأيضاً جعله في حياته أسوةً للمجاهدين؛ لأن الله -سبحانه وتعالى- كلَّفه أن يجاهد. وكما يقول بعض العلماء: لم يكلْ إلى الأقدار أن تنتقم من أعدائه. كما في معظم الرسالات السابقة؛ حيث كانت الأقدار هي التي انتقمت من الأعداء، كما قال تعالى ﴿فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ ۖ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا ۚ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَٰكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ [العنكبوت: 40]. فالأقدار هي التي انتصرت لرسل الله وانتقمت من أعدائها؛ ولكنَّ محمدًا ﷺ لم تتركه العناية الإلهية للأقدار وحدها، لماذا؟ لأن الله أراد له أن يعاني الجهاد بأنواعه. وهكذا أمة رسول الله ﷺ من بعده، كُتب عليها الجهاد والقتال ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة 216]. فلا بد أن يعدّوا أنفسهم كما أعدها نبينا ﷺ مع صحابته الكرام.

الرسول الكريم بدأ الجهاد من أول يوم:

يظن بعض الناس أن الرسول ﷺ لم يبدأ الجهاد إلا في حياته في العشر سنوات التي قضاها في المدينة، أما الـ13 سنة التي قضاها في مكة؛ لم يكن فيها مجاهدًا! وهذا غير صحيح.

فمن أول الأمر بدأ الجهاد: جهاد تبليغ الدعوة إلى ناس يرفضونها، ويرونها خطرًا عليهم. فبدأ يعاني من أول يوم يبلغ فيه الرسالة؛ وهذا ما سماه القرآن (جهادًا كبيرًا). قال تعالى ﴿وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَّذِيرًا فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا﴾ [الفرقان: 51- 52]. والجهاد الكبير هنا، هو الجهاد بالقرآن، أي بالتبليغ والبيان وإقامة الحُجة ثم هذا التبليغ يترتب عليه الأذى، ويترتب عليه الصدّ من هؤلاء الناس، ويترتب عليه أن يقاوموا وهذا معناه أن الرسول ﷺ ومن معه سيصابون بأذىً كثير؛ كما قال الله تعالى ﴿لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا ۚ وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾ [آل عمران: 186]. فالصبر والتقوى أو جهاد الصبر والاحتمال هو المقصود هنا، وهو الذي ذكره القرآن في سورة العنكبوت، التي نزلت بعد أن نزل بالمسلمين ما نزل وحاق بهم ما حاق من إيذاء المشركين المتنوع الأدوات والمظاهر.

قال تعالى ﴿الم ۝ أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ ۝ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۖ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ۝ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَن يَسْبِقُونَا ۚ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ۝ مَن كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ ۚ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ۝ وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ۝﴾ [العنكبوت: 1-6]. يقول الشيخ القرضاوي: «فالجهاد هنا هو جهاد هذا التحمل جهاد هذا الصبر على هذه المشاق؛ وعلى هذا الأذى الكثير، (أذىً كثيرًا). وانتهت السنوات الثلاث عشرة في مكة بما فيها وما فيها بالهجرة، والهجرة أيضاً هي نوع من الجهاد، وخصوصًا أنَّ النبي ﷺ عانى فيها ما عانى، وكان في وسع القدرة الإلهية أن يهاجر النبي ﷺ على البراق، ألم يعرج إلى السماء، ويسرى به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى على البراق؟ ولكن الله أراد لرسوله ﷺ أن يعاني الأسباب كما هي، ويعالج سنن الله في كونه كما يعالجها سائر الناس». ولذلك الذي نأخذه من سيرة النبي -عليه الصلاة والسلام- في هذه القضية أن بعض الأشياء تقتضي منا الأناة وعدم الاستعجال؛ فإن آفة الدعوات الاستعجال. والله -عز وجل- قال لرسوله: ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ ۚ﴾ [الأحقاف: 35].

العجلة كثيرًا ما آذت الحركة الإسلامية، وآذت الدعوة الإسلامية، وقدمت ضحايا في غير موعدها، أو غير أوانها ولذلك الرسول ﷺ كان يقول لأصحابه انتظروا لم يأت الأوان، لم يحن موعد القتال ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾ [النساء: 77]. أما شخصية الرسول الجهادية وجهاده في المدينة؛ فقد أصبح جهادا آخر غير جهاده في مكة؛ جهاد القتال المباشر، قوة مادية أمام قوة مادية، هذا ما حدث ولذلك النبي ﷺ غزا 27 غزوة حضرها بنفسه.

لقد تغيرت استراتيجية النبي ﷺ في مواجهة المشركين وأعداء الدعوة الإسلامية بعد أن أسس المسلمون دولتهم في المدينة، وأصبحوا يأمنون فيها على أنفسهم من الأعداء والعملاء؛ فبدأ بعث السرايا والغزوات.

 وهكذا عاش -عليه الصلاة والسلام- السنوات العشر؛ عاشها في جهاد متصل، ولا يكاد يوجد بيت في المدينة إلا، وفيه شهيد أو أكثر من شهيد. وقد أعدّ الصحابة الكرام لذلك؛ فرباهم إيمانيا، وأعدهم نفسيا وجسديا على جهاد شاق، وحياة خشنة من أجل نشر الإسلام والتمكين له في الأرض. وعرفهم أن الموت في سبيل الله هو عين الحياة ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَن يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَٰكِن لَّا تَشْعُرُونَ﴾ [البقرة: 154].

ما أشبه الليلة بالبارحة.. طوفان الأقصى وذكرى المولد النبوي

لقد تأست المقاومة الفلسطينية في غزة برسول الله ﷺ في إعداد العدة، وتربية الرجال، وأصبح لهم مساحة جغرافية يتحكمون فيها، ليس لأعدائهم ولا للعملاء عليها سلطان؛ وكانت هذه هي مصدر قوة حقيقية، بالإضافة إلى الحاضنة الشعبية التي تحملت ومازالت تتحمل الكثير في سبيل تحرير الوطن. فتغيرت استراتيجية القتال، كما حدث في سيرة الصحب الكرام على عهد رسول الله ﷺ.

يتحدث الإمام البنا عن ذكرى المولد النبوي الشريف وفلسطين الشهيدة يقول: «أيها المسلمون.. ستحتفلون قريبًا بذكرى المولد النبوي الشريف، وما أحراكم أن تذكروا فيه فيما تذكرون من حوادث جسام، ابتُلي بها العالم الإسلامي، الحالة الدامية في فلسطين الشهيدة وما آلت إليه بعد جهاد استمر عشرين عامًا (106 سنوات الآن)، وكيف أنها باتت على شفا التهويد، بعد أن أعمل فيها الاستعمار المسلح النار والحديد».

نتذكر يوم مولد المصطفى ﷺ ونحن اليوم نعيش حرب إبادة جماعية ممنهجة لإخواننا في غزة، على مرأى ومسمع من العالم كله و"منظماته الدولية" التي تتشدق بالحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان. لقد أثبتت هذه الحضارة المادية (حضارة الغرب) أنها حضارة نفعية، وأن ما تنادي به من حق الشعوب في الحصول على حقوقها إنما هو خطاب لشعوبهم هم. أما قيادات هذه المدنية المزعومة فلا ترى بأسا أبدا في إزهاق الأرواح، والنهب والاستعمار، للسيطرة على خيرات البلاد الأخرى ومقدراتها. ستظل قضية فلسطين هي القضية المحورية لأمتنا الإسلامية؛ ويظل على المسلمين، بل على كلِّ واحد منَّا مسؤولية فردية تجاه واجب النصرة لها؛ حتى تتحرر من الاحتلال الصهيوني الغاشم.

علينا الوعي بالقضية والتوعية بها، فيما يعرف بالجهاد الإعلامي. والتبرع السخي الندي من الزكوات وأصل المال، وتفعيل سلاح المقاطعة الاقتصادية، وتعوُّد خشونة العيش والادخار دعمًا لفلسطين الحبيبة، والاستعداد للمواجهة الكبرى، ومخاطبة منظمات المجتمع المدني في كل أنحاء العالم ودوائر التأثير لاتخاذ قرار يقضي بوقف الحرب على غزة. وتنظيم المسيرات والوقفات الشعبية وخاصة أمام قنصليات وسفارات الدول الداعمة للكيان الغاصب مع الالتزام بضوابط الحركة. علينا جعل قضية فلسطين، وتحرير الأقصى، ومساندة شعب فلسطين أولى الأولويات التي يلتقي عليها كل المخلصين في أمتنا؛ حتى لا يظن العدو أن خطته في القضاء على المقاومة، وتشريد شعب فلسطين سوف ينهي القضية، بل يجب أن يعلم عين اليقين أن أبناء الأمة كلها فداء للأقصى والقدس وفلسطين وأبنائها الأحرار، وأنهم العمق الاستراتيجي لأبناء غزة.

 

قسم التربية بجماعة "الإخوان المسلمون"

الجمعة 10 ربيع أول 1446هـ؛ الموافق 13 سبتمبر 2024م