التاريخ : السبت 05 أكتوبر 2024 . القسم :

طوفان الأقصى.. معالم وواجبات


(وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) [التوبة: آية 71]

شكّل طوفان الأقصى نقطة فاصلة في الجهاد ضد المحتل الصهيوني، ومعلماً مهمًّا على قدرة الأمة على التجدد، والخروج من الضعف إلى القوة، ومن الوهن إلى العزيمة، وكان النموذج التربوي الذي قدمه الطوفان في الإيمان والعمل والجهاد والإعداد نموذجاً ملهماً، يستعيد سيرة الجيل المؤمن الذي قال فيه ربنا تبارك وتعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ) [آل عمران: آية 110].

ومع مرور عام كامل من التضحيات والصبر والثبات، لا بد من وقفات يقف فيها أبناء الأمة والعاملون منهم في مجال التربية خاصة وقفات تأمل وتبصر. فبينما سوق الجهاد والتضحية قائمة، والأبطال الذين تخرجوا من محاضن العزة في غزة يسطرون الملاحم، ما زال كثير من أبناء الأمة الغيورين يشعرون بالتقصير في النصرة والمساندة، وفي الارتقاء لمستوى الحدث الذي ما زالت أبعاده تتكشف شيئاً فشيئاً، وفي الإعداد لإخراج أجيال تتمثل قيم الإسلام والتضحية، والإيمان والجهاد، وتستفيد من هذه التجربة المباركة. والحديث هنا لهؤلاء، وليس لأهلنا في غزة؛ تبييناً للمهمة، وتوضيحاً للواجب، وحضًّا على النصرة.

إدراك المهمة وشعار المرحلة

إن كثيراً من أبناء الأمة يتعاملون مع الأحداث بصيغة الانفعال المؤقت، والفعل الإضافي، لا على أنهم جزء من هذه المعركة الفاصلة، فهم يتابعون الأحداث التي تبكيهم أحياناً، وتشعرهم بالفخر أحياناً أخرى، والحال أنهم يتحدثون عن آخر يرجون له الخير، ويحذرون عليه من الإفناء، وليس على أنهم هم في قلب المعركة. إن شعار هذه المرحلة ينبغي أن يكون (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ) [التوبة: آية 71] فالولاية هي المهمَّة.

والولاية معرفة حقيقية لا يعكرها غبش، بأن الاصطفاف هو مع المؤمنين والمؤمنات، وأننا نحن المؤمنين ونحن المؤمنات. والولاية محبة للمؤمنين والمؤمنات، تستشعر أحوالهم، تجوع لجوعهم، وتفزع لفزعهم، وتفرح لفرحهم، وتألم لألمهم، وهذه المحبة ليست انفعالاً عابراً، بل هي محبة ثابتة لا تتزحزح، وهي محبة تبعث على الفعل؛ محبة الأخ يستند إليه أخوه عند الخَطْب، محبة الأم تمسح الألم إن ألمَّ، محبة الجماعة المسلمة لنفسها إن انتصرت أو مسها ضر. "مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم مثل الجسد، ‌إذا ‌اشتكى ‌منه ‌عضو تداعى سائر الجسد بالسهر والحمى" رواه مسلم.

والولاية نصرٌ، وهنا مكمن الفعل والحركة، الحركة المتوقدة، التي تجعل كل مؤمن جزءاً من المعركة، كل بحسبه، عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «المسلم ‌أخو ‌المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرَّج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة، ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة.» متفق عليه.

واجبات النصر ومتطلباته

إن إدراك المهمة هو أول الأمر، فإذا عرفها المسلم، ارتقى منه إلى السؤال عن المطلوب والواجب، وهنا يأتي الجواب واضحاً شافياً في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46)) [الأنفال: آية 45،46]. 

ففي قلب المعركة هذه واجبات النصر ومتطلباته، الثبات والذكر والطاعة ووحدة الصف والصبر، وهذا تفصيلها:

أولاً: واجب الثبات

الثبات نوعان: معنوي وعملي، أو ثبات القلب وثبات العمل، أو الانفعال والفعل.

أما ثبات القلب، فيقول فيه الإمام القشيري: والثبات إنما يكون بقوة القلب وشدة اليقين، ولا يكون ذلك إلا لنفاذ البصيرة، والتحقق بالله، وشهود الحادثات كلها منه، فعند ذلك يستسلم لله، ويرضى بحكمه، ويتوقع منه حسن الإعانة.

وإن الطرف الذي تهون عزيمته، وتنهار معنوياته هو الخاسر في هذه المعركة الكبرى، ولذلك نرى العدو يستخدم الصدمة والمجازر، ويستخدم كل وسائل الإعلام والمنابر لتوهين المعنويات وكسرها، ونرى المرأة والصبي والشيخ في فلسطين يقدِّمون النموذج تلو النموذج في الثبات واليقين والتحدي، وهو ما يجعل العدو يبحث عن نصر أيّ نصر!

وأما الثبات العملي المطلوب من الأمة في النصرة، فهو:

ثانياً: واجب الذكر الكثير

ولم يرد الذكر في القرآن إلا مقروناً بالكثرة. قال ابن عباس (رضي الله عنه) في قوله تعالى: (وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا) [الأنفال: آية 45]، يقول: لا يفرض الله على عباده فريضة إلا جعل لها حدًّا معلومًا، ثم عذر أهلها في حال عذرٍ، غيرَ الذكر، فإن الله لم يجعل له حدًا ينتهي إليه، ولم يعذر أحدًا في تركه إلا مغلوبًا على عقله...". وقال قتادة: افترضَ الله ذكره عند أشغل ما تكونون، عند الضِّراب بالسيوف.

والذكر في حال لقاء العدو تثبيت للنفس، وتذكير لها بالغاية، وتقوية لها على الطاعة، واستحضار للمعية، وربط للقلب بتحقيق الموعود مع الدعاء والتضرع، فبهذا يكون غاية استحضار القوة المعنوية، وأكبر باعث على الإعداد المادي.

ويدخل في الذكر:

الذكر باللسان، مع استحضار القلب، ومن ذلك الإكثار من: حسبنا الله ونعم الوكيل؛ عند كثرة العدو وإجلابه قال عز وجل: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ) [آل عمران: آية 173،174] صلاة الليل خاصة؛ وهي شعار الصالحين، ودأب المجاهدين من سلف هذه الأمة.

الدعاء، قال تعالى: (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) [آل عمران: آية 146،147]، ومن ذلك دعاء القنوت عند النوازل في كل صلاة. ومن ذلك ترجي أحوال الإجابة من الإخلاص والتضرع وتحري أوقات استجابة الدعاء.

ثالثاً: واجب الطاعة

والطاعة لله ولرسوله مأمور بها في كل وقت، وهي مدار حياة المؤمن، وعليها تقترب الأمة من موعود ربها أو تبتعد عنه، وإن موعود الله سبحانه بالنصر والتمكين في هذه الأمة مرتبط بالإيمان والعمل الصالح، قال تعالى: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي) [النور: آية 55].

وإن نصر الله منوط بمن ينصره (وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) [الحج: آية 40]. ولم تنزل مصيبة إلا بذنب (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) [الشورى: آية 30]. وما ارتفعت إلا بتوبة (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [النور: آية 31]

الأخذ بواجب الإعداد قال تعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ) [الأنفال: آية 60]. ومن الطاعة نصرة المظلومين، والإنفاق في سبيل الله، والدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ترك الذنوب: روى ابن ماجه والحاكم بسند حسن عن عبد الله بن عمر، قال: أقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يا معشر المهاجرين، خمس إذا ابتليتم بهن، ‌وأعوذ ‌بالله ‌أن ‌تدركوهن: لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها، إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا. ولم ينقصوا المكيال والميزان، إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤونة وجور السلطان عليهم. ولم يمنعوا زكاة أموالهم، إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا. ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله، إلا سلط الله عليهم عدواً من غيرهم، فأخذوا بعض ما في أيديهم. وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله ويتخيروا مما أنزل الله، إلا جعل الله بأسهم بينهم".

ومن الذنوب التي يغفل عنها العاملون: العجب، وعدم الرجوع إلى الحق، والتباغض والتنافر، والغِيبة والنميمة، والتعصب، واللمز، والإكثار من القول دون العمل، وغيرها من محبطات العمل، ومبطلات التوفيق.

رابعاً: واجب وحدة الصف

وهي أساس النجاح، ومظنة التوفيق، يقول ربنا تبارك وتعالى: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ) [الصف: آية 4]. وبيَّن أن التنازع والتفرق سبب مباشر للهزيمة، وذهاب الريح.

وفي حالة المعركة ينبغي للأمة أن تتوحد كلمتها وتجتمع رايتها، وتترفع عن التنازع والاختصام فيما بينها، ولا بد في ذلك من تذكر الخطر الداهم بالجميع، والاجتماع على المبادئ والمشتركات، والتقليل من مساحات الاختلاف مع الإعذار فيه. ولتكن ألسنتنا وأقلامنا، ولتكن أعمالنا ونكايتنا، سهاماً موجهة إلى صدور العدو، لا إلى الصف المسلم.. معاذ الله.

خامساً: واجب الصبر

أيها الإخوة العاملون.. هذا وقت التقدم والعمل، وقت البذل والتضحية، وقت القيام بمهمة الولاية للمؤمنين، فشمِّروا وأروا الله من أنفسكم خيراً. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [آل عمران: آية 200]

 

القائم بأعمال فضيلة المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين

الدكتور صلاح عبد الحق

السبت 2 ربيع الثاني 1446هـ؛ الموافق 05 أكتوبر 2024م