التاريخ : الاثنين 07 أكتوبر 2024 . القسم : مع الشباب

السعدان…وفن صناعة الحياة الغالية


سعد بن الربيع، وسعد بن معاذ سيدان من سادات الأنصار..

الأول كان سيد الخزرج، وأحد نقباء الأنصار يوم العقبة الثانية..

صاحب أعلى وأسمى موقف في الأخوة؛ عرفته الدنيا مع أخيه عبد الرحمن بن عوف..

شهد مع النبي صلى الله عليه وسلم بدرا وأحدا واستشهد في أحد..

وفي قصة استشهاده من المعاني والرسائل ما لا يكفيها المقالات..

"روى خارجة بن زيد بن ثابت، عن أبيه، قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم أحد لطلب سعد بن الربيع، وقال لي: " إن رأيته فأقرئه مني السلام، وقل له: يقول لك رسول الله: كيف تجدك؟ " قال: فجعلت أطوف بين القتلى فأصبته وهو في آخر رمق وبه سبعون ضربة ما بين طعنة برمح وضربة بسيف ورمية بسهم، فقلت له: يا سعد، إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ عليك السلام، ويقول لك: " خبِّرني كيف تجدك؟ " قال: على رسول الله السلام، وعليك السلام قل له: يا رسول الله، أجدني أجد ريح الجنة، وقل لقومي الأنصار: لا عذر لكم عند الله أن يخلص إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفيكم شفر يطرف، قال: وفاضت نفسه رحمه الله". 

أما سعد بن معاذ فهو سيد الأوس..

أسلم على يد أسعد بن زرارة ومصعب بن عمير في المدينة قبل الهجرة، واستشهد في العام الخامس من الهجرة بعدما شهد بدرا وأحداً والخندق، والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى استشهد..

ولما استشهد شيَّعه سبعون ألفا من الملائكة، واهتز لموته عرش الرحمن، وفتحت له أبواب السماء كما صح في الحديث.

وكان المسك يفوح منه كلما حفر الصحابة قبره، وأقسم النبي صلى الله عليه وسلم أن مناديله في الجنة أفضل من حلة حرير رآها مع أصحابه.

هذه ترجمة سريعة للسعديْن رضي الله عنهما… لم أذكرها للتسلية أو الحكاية..

لكنني أصدقكم القول… كلما قرأت سيرتيهما وما فيهما من كثير عطاء للدين، ووفرة النِّتاج للإسلام، مع قلة عمريهما في الإسلام تملكتني الحيرة، وأشفقت على نفسي..

فالأول عمره في الإسلام خمس سنوات، والثاني عمره ست سنوات..

لكن أعمالهما توزن بعشرات السنين بل بمئينها!!

وكأن العمر عمران…عمر سنين وعمر عطاء!!

أو كأن الأعمار ببركتها لا بكثرتها..

فبعضنا يعيش طويلا، ويلقى الله بفتات عمل يستحي من نفسه إن عرض عليه هو يوم القيامة..

وبعضنا يعلم أنها أيام معدودة، وأنفاس محسوبة، ومنحة لا ينبغي أن تصرف إلا فيما يرضي مانحها سبحانه..

لذلك كان من دعاء عمر رضي الله عنه: "اللهم إنا نسألك صلاح الساعات، والبركة في الأوقات".

وكأن الدعوة هذه أصابت كبد سبب الأعمار الغالية..

وقت مبارك…وعمل صالح يملأ الصحيفة!!

أقول هذا وأنا أرى أعمارا للصالحين تبدد أمام شاشات الهواتف، وفي سفاسف الأمور، ومجالس الغفلة… في الوقت الذي فيه أمتنا أحوج ما تكون لمعشار هذه الجهود، ولو ظفرت بها لتغير حالها..

رأيت صديقا يمر على محطات الحافلات التي يرتادها غير المسلمين في بلد خليجي ليعرض عليهم الإسلام، وقد حكى لي الأعاجيب من قصص إسلامهم!!

ورأيت آخر يسخِّر ماله، وبيته، وأهله، وحياته دون هوادة في خدمة الإسلام، ولما استمهلته، وحضضته على إراحة نفسه قال: الراحة هناك لا هنا يا أخي!!

إن من فضوح يوم القيامة وخزيه أنك سترى أناسا تساووا في العمر، وتشاركوا في الزمان والمكان بل في المعارف والعلوم؛ غير أنك ترى أحدهم يدخل الجنة أول اليوم، في حين أنَّ الثاني يدخلها آخرها؛ كما ذكر ابن عباس في تفسير قوله تعالى:

"أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا"

زد على ذلك حال الأمة المتردي الذي كان يحتاج لمثل السعديْن، عملا وسعيا وتغييرا بدلا عن حياة بائسة ملؤها البكاء على مسكوب اللبن، ولعن الظلام، والتقليل من فعل هذا، والتشنيع على ذاك!!

يا أصحاب الحياة الفارغة، والصحائف الفارغة، ما لهذا خلقتم، وما لهذا اختصصتم بمنحة الحياة، سيما لو كنتم من دُلَّال الناس على الله..

ذكر أهل التاريخ أن صلاح الدين لما حرر بيت المقدس جلس بعدها على شاطئ البحر متأملا… فقال له قائد جيشه:

فيم تفكر أيها السلطان؟

قال: أفكر في أن أوصي بأمر السلطنة، ثم أخوض بالمسلمين هذا البحر، فلا أترك وراءه أحدا لا يعبد الله إلا عبَّدته لله!!"

تعجبت من قصة صلاح الدين هذه فقلت لأحدهم: أوَ بعد كل هذا الذي قدمه لدينه وأمته يستقل عمله ويطمح إلى غيره؟!!

فقال لي: هكذا غلاة الحياة، كلما عملوا استقلوا ما عملوا، وكأنهم يشربون مع كل عمل ماء مالحا، كلما شربوا عطشوا، وكل عملوا استقلوا، حتى يلقوا ربهم بصحائف ترفع الرأس وترضي الرب!! 

بقي أن تعرف أن السعدين علت منزلتهما حتى عند رسولهم لما غلت حياتهم..

حتى انشغل بسعد وسأل عنه باسمه يوم أحد، رغم مصابه في عمه وصفوة كبيرة من أصحابه..

وسعد الآخر لقبه النبي بالسيد..

فقد جاء في السيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاء سعد بن معاذ في جراحاته ليحكم في بني قريظة قال صلى الله عليه وسلم:

"قوموا إلى سيدكم"

يبدو من مفتاح المقال ومغلاقه أن السيادة الحقيقية هي يوم تزدحم الحياة بما لله فيها، وغير ذلك هباء، وأي هباء؟!!

فاستَغْلوا حياتكم، ولا تسترخصوها… فلربما تحشرون تحت راية سيدكم سعد هذا أو ذاك.