التاريخ : الاثنين 07 أكتوبر 2024 . القسم : مقالات وآراء

سنة المداولة في طوفان الأقصى من الوعي إلى السعي


أقام الله تعالى الكون، ظواهر وخلقًا، على سنن حاكمة ونواميس ماضية، لا تتخلف ولا تتبدل، وهذه المنظومة من السنن متشابكة متكاملة، لا تتعارض ولا تتعاند، بل يكمل بعضها بعضًا، ويسند أولها آخرها، ويؤكد آخرها أولها في تناغم واتساق.

وقد حفلت أحداث طوفان الأقصى – هذا الحدث الذي هز العالم مادةً وفكرًا وتصورًا ورصدًا- بمجموعة من السنن تتعاضد بصورة عجيبة كأن الله تعالى طوى الزمان في زمن وجمع العالم في واحد، فرأينا بعين (العلم) ما كنا نراه بعين (الحلم) وشاهدنا مشاهدة عيان بعد مقولات البيان، وانتقلت أمامنا (الرؤيا) الحلمية إلى (الرؤية) العلمية، ونطقت الآيات نطق الحال ونطق المقال وأضحى تنزيلها على الواقع ينادي الكون بأسره: ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5)﴾ [القصص: 5].

فرأينا منظومة متشابكة من سنن الله تعالى أربت على عشرين سنة، ومنها:

سنة المداولة بين الحق والباطل

المقصود بمفهوم سنة المداولة في طوفان الأقصى: نظام الله تعالى المطَّرد، الذي لا يتحول ولا يتبدل في المعاقبة والمناوبة والمعاورة، بين فئتي المؤمنين أصحاب الأرض والحق والمحتلين الغاصبين من اليهود الصهاينة، ذاك النظام الذي يمثل الحركة الدائبة في الصعود والهبوط، والنصر والهزيمة، على أساس استجماع الشروط وانتفاء الموانع.

وقد مثَّلت هذه السنة خير تمثيل آيةُ آل عمران التي ورد فيها: (﴿قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ * هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ * وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ * إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ﴾ آل عمران:137-141.)

ونتابع الحديث عن هذه السُّنة من زوايا متعددة في ضوء طوفان الأقصى حتى تنكشف لنا أبعادها ونحسن الإفادة منها في واقعنا المعيش

أسباب المداولة

المداولة سنة من سنن الله تعالى اعتنى بها القرآن الكريم ووردت صراحة في القرآن مرتين، في قوله تعالى: ﴿‌وَتِلۡكَ ‌ٱلۡأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيۡنَ ٱلنَّاسِ﴾ [140]، ومرة في قوله تعالى: ﴿‌كَيۡ ‌لَا ‌يَكُونَ دُولَةَۢ بَيۡنَ ٱلۡأَغۡنِيَآءِ مِنكُمۡۚ﴾ [7].

كما عبر عنها القرآن الكريم بطرائق متعددة كحديثه عن زوال أمة وقيام أمة أخرى مكانها أو حديثه عن أسباب هلاك الأمم، وكحديثه عن سنن التغيير ونقصان الأرض من أطرافها ونحو ذلك.

ولا شك أن لسنة المداولة أسبابًا من أهمها الآتي:

1-           استجماع أمة من الأمم أسباب الهلاك فهي مبنية على أعمال الناس ولا تكون جزافا. من هنا اعتنى القرآن الكريم بتبصير المؤمنين بسنة المداولة حتى يعرفوا أسبابها ويتجنبوا أضرارها.

واليهود الغاصبون اليوم استجمعوا بلا شك كثيرا من أسباب الفساد والاستعباد والظلم والاعتداء والخروج عن توحيد الله تعالى بما يجعله أمة تستحق التبديل حسب سنة الله تعالى في خلقه، ومن يتابع ويرصد حال المجتمع اليهودي في الكيان الغاصب وتعامله مع أهل فلسطين خاصة وتعامل اليهود عامة مع عموم أصحاب الديانات الأخرى يدرك هذا تماما.

2-           تمييز المؤمنين من المنافقين. ومن أسباب سنة المداولة كذلك تمييز الله تعالى عباده المؤمنين من المنافقين. أي فعل ذلك ليقيم سنته في مداولة الأيام وليعلم الذين آمنوا من الذين نافقوا و﴿قَالُواْ ‌لَوۡ ‌نَعۡلَمُ ‌قِتَالٗا لَّٱتَّبَعۡنَٰكُمۡۗ﴾ [آل عمران: 167] أي يميزهم منهم.

وليس هناك من مواقف كاشفة للنفاق والمنافقين أوضح من أحداث طوفان الأقصى؛ فقد أسقطت الأقنعة الزائفة من فوق وجوه كالحة سواء على مستوى السياسة والحكم، أو الإعلام ومنصات التواصل، أو حتى على مستوى بعض علماء الدين الذين اشتروا الدنيا بالآخرة؛ فصاروا كأسوأ مثل للإنسان الذي باع علمه بعرَض من الدنيا زائل؛ فكم سمعنا ورأينا من علماء دين لم يكتفوا بتخذيل المجاهدين، بل سارعوا فيهم بقالة السوء فكان بلاؤهم على إخوانهم أنكى من بلاء العدو، ولله الأمر من قبل ومن بعد.

3-           ديمومة حركة الحياة، ومن أسباب المداولة بين الأمم ضمان ديمومة حركة الحياة وأن لا يستقل بقيادة البشرية فئة دون فئة ولا جنس دون جنس إلا بشروط ومواصفات؛ وهذا عين أن تكون الأيام دولا بين الناس.

4-           ومن أسبابها كذلك الابتلاء والاختبار للمؤمنين. وفي هذا السياق نفهم قول قتادة رضي الله عنه وأرضاه: (إنه والله لولا الدول ما أوذي المؤمنون، ولكن قد يدال للكافر من المؤمن، ويبتلى المؤمن بالكافر، ليعلم الله من يطيعه ممن يعصيه، ويعلم الصادق من الكاذب)

وليس هناك ابتلاء أشد من هدم البيوت وفقد الأهل والولدان ومفارقة الأوطان، وتشريد الخلان، وقد رأى العالم وسمع لحظة بلحظة صنوف الابتلاء التي عرضت لأهل طوفان الأقصى ومن حولهم، فأوذي المؤمنون في أنفسهم وأموالهم وإخوانهم وأهليهم، ورأى الناس نماذج من الصبر والثبات لا تقل عن صبر الصحابة في كل صورة من صور الابتلاء؛ حتى هز هذا الابتلاء ضمير الأحرار من شعوب العالم فعبر كلٌّ بطريقته عن موقفه من أحدث غزة.

5-           ضمان قيام العدل واستقرار النظام، فكل ما وجدته يصلح حكمة وعلة لهذه القاعدة عددته من المطوي المحذوف، وأعمّه ما أشرنا إليه آنفا وهو أن يقال في التقدير: وتلك الأيام نداولها بين الناس ليقوم بذلك العدل ويستقر النظام، ويعلم الناظر في السنن العامة، والباحث في الحكمة الإلهية البالغة، أنه لا محاباة في هذه المداولة، وليعلم الذين آمنوا منكم؛ لأن الجهاد الاجتماعي الذي يدال به قوم على قوم مما يظهر ويتميز به الإيمان الصحيح من غيره.

6-           تمييز الثابت على الإيمان من المزحزح فيه. وهذا التعبير القرآني على سبيل التمثيل وإلا فإن علم الله شامل ما كان وما يكون وما هو كائن إلى يوم القيامة.

وقد أبانت هذه المداولة والابتلاء فيها عن صنوف من البشر أمثال الجبال ثباتا وإيمانا، كما كشفت عن صنف من الناس (يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة)؛ وهذا هو التمييز والفرز الفاصل بين حزب الرحمن وحزب الشيطان. 

7-              تمييز الخبيث من الطيب على الحقيقة.

8-           تسلية المؤمنين وتبصرتهم. وفيه من تأكيد التسلية ومزيد التبصرة مالا يخفى، وتخصيص البيان بعلة هذا الفرد من مطلق المداولة دون سائر أفرادها الجارية، ولا تسل عن تسلية المؤمنين والتسرية عنهم من أحدث طوفان الأقصى، فإنه على الرغم من الألم والجراح والضريبة الباهظة التي دفعها ويدفعها هؤلاء الأشاوس النبلاء إلا أنها أنعشت الأمة التي ظن عدوها بل ظن كثير من أفرادها أنها ماتت وأسلمت روحها؛ فإذا بها تستجمع شتاتها من جديد على مستوى الوحدة والرسالة فتجد تركيًّا يسافر خِصيصَى لينتقم لإخوانه في غزة، وتجد طبيبا مصريا أو أردنيا أو .... يترك أهله وأولاده ليقوم بواجب الإخوة والدين، وهذا مؤشر أن أمتنا تمرض لكنها لا تموت، وكيف تموت وهي تستمد قوتها من الحق والحق حي لا يموت. 

9-           اتخاذ الله شهداء من عباده، وهذا يكون في الصراع الممهد للمداولة، ويكون ثمنا للنهوض الذي تتغيَّاه الأمة وتسعى إليه، (﴿وَيَتَّخِذَ مِنكُمۡ شهداء﴾[آل عمران:140].

10-        ملء الفراغ الحضاري؛ حتى لا تكون هناك أمة نائمة وأخرى قائمة على مدار الدهر. فإذا تراخت صاحبة الريادة وأختها نائمة فيكون هناك فراغ حضاري لا يسده أحد وهذا لا يكون في الحياة، فيظل هذا التداول بين قوة وضعف وهزيمة ونصر؛ حتى يحفز القرآن الأمم إلى التنافس في ريادة البشرية.

11-        التدافع المحتوم بين الحق والباطل، وهو مقدمة من مقدمات سنة المداولة أو جزء منها، فالمداولة لا تعمل في فراغ ولا تنطلق بمفردها، بل هي واحدة من مجموعة سنن، مجملها يسند بعضها بعضا، فالتدافع والتغيير والتداول كل ذلك في حقل سنني واحد.

آثار سنة المداولة في طوفان الأقصى

للمداولة نتائج وآثار رصدتْها نصوص القرآن الكريم، وأيدها الواقع في طوفان الأقصى بصورة عجيبة، حتى كأن الآيات تتنزل الآن؛ حتى نرى إعجاز القرآن الكريم في المنظور كما رأيناه في المسطور،

والراقب لأحداث طوفان الأقصى البصير بسنن الله تعالى فيه يدرك بوضوح وجلاء آثارا واضحة ونتائج بينة لكل ذي عينين من أهمها ما يأتي:

1-           من أهم آثار المداولة وسنة الله تعالى فيها ما يترتب عليها من تمحيص وتمييز للمخلصين، واتخاذهم شهداء، وإظهار عزة منال الشهادة، وأنها لا تنال إلا ببذل واستعد، ثم يكون الاصطفاء من الله تعالى، ولعل استئناف الكلام في قوله تعالى: {أم حسبتم} دال على هذا؛ حتى يقفوا على الأسباب ويربطوها بنتائجها ويفيدوا من أحداث التاريخ الذي لا يتوقف مدًّا وجزرا.

2-           محق الكافرين؛ وهي علة من علل سنة المداولة، وأثر من آثارها في الوقت ذاته؛ لأن محق الكافرين مرتبٌ على المداولة.

3-           ارتقاء فئة من خُلَّص المؤمنين للشهادة في سبيل الله تعالى، وهي المنزلة السامية التي تتطاول إليها أعناق المؤمنين الصادقين؛ لما لها من فضل ومكرمة ومنزلة عظيمة عند الله تعالى.

4-           ديمومة حركة الحياة؛ حتى لا تتوقف ولا تأسن، ولا تتعطل قواها، ولا تنحصر خيريتها في جيل دون جيل ولا جنس دون جنس، فالقرآن الكريم يطرح فكرة المداولة كفعل دينامي يستهدف تمحيص الجماعات البشرية، وإثارة الصراع الدائم بينها، الأمر الذي يتمخض عن تحريك الفعل التاريخي وخلق التحديات المستمرة. 

5-           إن المداولة توحي بالحركة الدائمة وبالتجدد وبالأمل، وتقرر أن الأيام ليست ملكا لأحد؛ فلا داعٍ لليأس ولا للهزيمة... إنها في منطق القرآن تحمل معاني حركة العالم المستمرة، وتمخض الصراع الفعال.. وديمومة الأمل البشري الذي يرفض الحزن والهوان.. ﴿‌وَلَا ‌تَهِنُواْ وَلَا تَحۡزَنُواْ وَأَنتُمُ ٱلۡأَعۡلَوۡنَ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ﴾ [آل عمران: 139].