التاريخ : الجمعة 11 أكتوبر 2024 . القسم : رسالة الأسبوع

دعوتنا بين أمس زاهر.. وغد منتَظَر


عُرِفَت دعوة الإخوان المسلمين بمبادئها. وعُرِفَت كذلك بمظاهرها. فمن مبادئها: (الله غايتنا، والرسول قدوتنا، والقرآن شرعتنا، والجهاد سبيلنا، والشهادة أمنيتنا)

"الله غايتنا": حتى لا نلتفت إلى غير نصيبنا الذي لا يفوت؛ حيث ما عند الله من الرضا والمتاع، بعيدا عن تصدر المجالس والظهور بأكبر المظاهر وحمل أفخم الألقاب.

و"الرسول قدوتنا": لنجعل وراثة النبوة ظاهرة في شمائلنا، فنُعْرَف في مجتمعاتنا بسمتنا الخاصة من حالٍ صالحة قوية مع الله، وبذوقنا الخاص من إِلفِ المشقَّة وتعود الخشونة، ومن روح الكفاح وافتداء الفكرة.

و"القرآن شرعتنا": لأنه منهاج ثقافةٍ عالية ليس فيه أي معنى رجعي أبدا، فلن يكون نقضاً لاتفاقات دولية ولا اعتداء على أقليات مواطنةٍ أو أجنبية، ولا إلغاء لنظم حكم نيابية ولا إحياء لأي مظهر رجعي يتنافى مع أصول المدنية.. فالقرآن خير كله، وقد وضع لذلك من النظم أحسنها وأفضلها (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) [الأنبياء: آية 107]

و"الجهاد سبيلنا ووسيلتنا": من أجل إزالة العوائق، لأنه إذا وقع الأمر، فربما لا يتغير إلى بالمجهود العنيف والدأب المخيف. وضبط الإمام البنا الجهاد بأمرين: أن يبتعد عن العبثي الزائد عن الحاجة، الذي لا يحل قضية، ولا يخدم أحداً، وهو ما يقع فيه كثير من الناس. وضبطه بسمو الدعوة وسعة أفقها، فقال: على قدر سمو الدعوة وسعة أفقها تكون عظمة الجهاد في سبيلها وضخامة الثمن الذي يبذل لتأييدها، فسمُوّ الدعوة أعطى الوسائل حكم المقاصد والغايات، وسعة أفقها.. فجعل من ارتباطه بالواقع في تنوعه واستمراره ما يخصِّبه أو يثريه.

و"الموت في سبيل الله أسمى أمانينا": فإننا لا نرهب الموت، ولكنه ليس غايتنا، فغايتنا هي الحياة، فلن نخطو بغير غاية، ولن نسعى بغير حاجة، ولن نضحي بغير ربح، ولن نجرح دون إصلاح، رائدنا المصلحة وكفى. فإن أعوزتنا الحياة الكريمة فلن يعوزنا الموت الشريف.

ومن مظاهرها: (البساطة، والتلاوة، والصلاة، والجندية، والخلق)

"البساطة": فكان الإمام البنا -رحمه الله- يلم الدنيا على هوادة، لا يجمع منها ولا يمنع، لا يهتم بشيء منها إلا لضرورة، ولا يصيب منها إلا بمقدار. يأكل ما حضر، ويلبس ما تيسر، ويتخذ من السكن ما قلَّ وكفى، همُّه أن يرى دعوته عالية تحيا بين الناس، وأن يعلن إليهم ما في صدره من الأسرار.

"التلاوة": وهي دعوة منه إلى حسن الصلة بكتاب الله عز وجل؛ فكان مدمِنًا لتلاوة القرآن الكريم.. يقرأه ويتدبره أثناء سيره وحيدا، وأثناء ركوبه في رحلاته المتلاحقة، التي كان يسوق فيها الجماهير بصوته الرهيب إلى الله، يقرأه ويتلوه ويراجعه، يغذي بألفاظه ومعانيه روحه وجسده.

"الصلاة": وهي دعوة منه -رحمه الله- إلى حسن الصلة بالله جل شانه؛ فكان ذا حال صالحة قوية تفيض علما وإيمانا وقوة وكمالا؛ إذا توجَّه بها إلى غيره نقله من حال إلى حال، وخلَّصه من العيوب عيبا عيبا، ودرج به في مدارج الكمال. وفي الشعور باتجاه المسلمين في أنحاء العالم إلى قبلة واحدة يكسب المسلم الشعور بالوحدة مع إخوانه المسلمين وارتباطه بهم، وهذا معنى تربوي هام يلزم تحقيقه بين المسلمين كي يستطيعوا مواجهة أعداء الإسلام، كما أن التوجه إلى القبلة يلزم أن يصاحبه توجه القلب إلى الله بإخلاص النية وتنقيتها من آثار الرياء أو الشرك وإخلاص الوجهة من أهم ما يلزم الداعية إلى الله في طريق الدعوة.

"الجندية": بأن يعتبر الأخ نفسه جنديًا للدعوة، ويشعر بأن لها حقًا في نفسه ووقته وماله، وأن يقوم بأداء اشتراكه لصندوق التعاون مهما تكن ظروفه، متى تعهد بذلك، ولم تعفه أسرته منه. وأن يشعر أهله بهذا التطهر الجديد في حياته، وأن يجتهد في أن يطبع بيته بالطابع الإسلامي، وأن ينتهز الفرصة المناسبة، ويعاهد زوجته على العمل للدعوة معه، وأن يلزم أولاده وخدمه آداب الإسلام.

"الخُلق": وأخلاق المؤمنين تلزم الدعاة تأسياً برسول الله -صلى الله عليه وسلم- عسى أن يكونوا رفقاءه في الجنة. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى كي تتحقق فيهم القدوة العملية، وذلك أبلغ في التأثير فيمن يوجهون الدعوة إليهم كأحد أهم واجبات المسلم.

هكذا أرسى الإمام البنا للدعوة مبادئها، وبيَّن مظاهرها، واضحة مشرقة بنور الإيمان، فلما عزم ومضى، كان قد خلف وراءه أمة مقبولة الدعوات، طاهرة الفم، تقود ولا تنقاد، توجه ولا تتوجه، تؤثر ولا تتأثر، كلما سقط منها على الطريق راكب.. خلفه على الدرب آخر ينتظر (فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ) [الأحزاب: آية 23].

ثقتي أنه لن يمر وقت طويل حتى يقول التاريخ النظيف فينا كلمته، ويروي الراوي الصادق عنا يوما قصته ﴿... فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ﴾ [الرعد: 17].

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين

الدكتور صلاح عبد الحق

القائم بأعمال فضيلة المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمون

الجمعة 8 ربيع الثاني 1446هـ؛ الموافق 11 أكتوبر 2024م