
التاريخ : الأربعاء 12 فبراير 2025 . القسم : رسالة الأسبوع
حسن البنا وقضايا أمته .. في ذكرى استشهاده
حسن البنا.. لم يكن هذا اسمه فحسب، بل كانت صفته كذلك. فقلد كان البناء، وإحسان البناء، وعبقرية البناء؛ من ألزم صفاته.
نشأ الرجل في بيئة سلفية؛ فأخذ منها العلم والفقه.. وهو ما أعانه على اختيار الصواب من بين زحام البدائل وضجيج الأصوات. والتحق بطريقة صوفية فأخذ منها التذوق والفيض؛ وهو ما أعانه على أداء الواجب واحتمال عذابات النتائج برجولة وشرف وارتياح ورضا.
لقد قدم الرجل لأمته فكرا نضيجا؛ هو الإسلام الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، والحكومة جزء منه.. والحرية فريضة من فرائضه.. وقدم جيلا جديدا.
يعرف في مجتمعه بسمته الخاص؛ من حال صالحة قوية، وبذوقه الخاص.. من إلف المشقة وتعوُّد الخشونة.. وبفلسفته العالية من روح الكفاح وافتداء الفكرة.
لقد كانت حياته صورة صادقة لما كان يؤمن به، ويعتز بالانتساب إليه.
ففي ظل ظروف صعبة ومعقدة؛ فاجأت العالم الإسلامي.. شخصية فذة – إنه حسن البنا – الذي كان إيجابيًا في نظرته، واقعيا في طرحه، رغم قدرته على الخيال.
واجه البنا فكرا مغلوطا؛ فصححه، وقدمه لأمته نضيجا، فيه كل ما تطمع الأمة إليه من خير.. وما ترجوه من صواب.. هو موجود وزيادة.. ومحرر من دخنه كذلك. وهو ما كلفه راحته وحياته.
فمن بين تراث هائل مشرق منير اختار الرجل الأحسن والأفضل.. والأكمل والأوفى..
يقول رحمه الله.. خُيِّرتُ فاخترت: بين التصوف الصادق وما يعنيه من التأمل والعزلة.. وبين التعليم والإرشاد وما يعنيه من مخالطة الناس وغشيان مجامعهم؛ فاخترت الثاني، بعد أن نهجت الأول. لأن العمل الذي لا يتعدى نفعه صاحبَه قاصر ضئيل..
وأما العمل الذي ينتفع به العامل وغيره، من قومه وبني جنسه يكون شرفه، ويكون خطره، ويكون جلاله.
وواجه البنا تدينًا محصورا في الصوامع والبيعات.. والرُّبَطِ والخلوات؛ فأذاعه ونشره، ليتناول مظاهر الحياة جميعا.. ديناً ودولة.. مصحفاً وسيفاً.. عقيدةً وعبادهً، سواء بسواء.
وواجه الرجل جيلا أفسدته روح الخنوثة والميوعة، والاستهتار والجبن؛ فألبسه لباس الجِد؛ ففارق اللَّذات والشهوات.
وواجه جيلا أفسدته عقدة النقصِ والدونية، والإعجاب بالخصم إعجاباً أدى إلى تقليده في كل ما صدر عنه؛ فجعل وراثةَ النبوةِ ظاهرةٌ في شمائله.
حسن البنا؛ تقرأ في قسمات وجهه، وترى في بريق عينيه، وتسمع من فلتات لسانه؛ ما يدلك على مايضطرم في قلبه من جوىً لاصقٍ، وألم دفين. وما انطوت عليه نفسه من همة عالية، وعزيمة صادقة، وغاية بعيدة.. ذلك شأن المجاهدين من الأفراد والأمم.
وواجه مجتمعا مترديا؛ نفوس أهله، لا تصلح لعمل جدي؛ فأسرع إليه لينهضَه، ويقوى من روابطه
ويرفع من درجة إخوته بالتعارف والتآلف، ليكشف كوامن العظمة في نفوس رجاله ونسائه
ويعلم مَنْ حان أوانه ووجب ندبه.. ومن يتريث في أمره إلى حين.
كان مشغولا بهداية العالم أجمع، ونشر رسالة الإسلام. وأراد من الأمة الإسلامية أن تعدَّ نفسها لذلك.
بالتقارب والتصالح:
لأن سيرا بدايته ما نحن فيه، ونهايته العالم أجمع؛ يحتاج من الأمة التي تريد ذلك؛ أو تحاوله.. أن تعلن حسن استعدادها لإصلاح العيوب، وأن تكلف أنفسها غاية ما تستطيع.. فقد يأتي من يقفُوها، فيستطيع فوق ما استطاعت. وهو مقام في الإيمان ليس وراءه مقام، يسع الناس في هذا العالم الواسع.
وبالتكافل والتساند :
لأن الفقر المحض يجعل النهوض الروحي أمراً غير ميسور.. كيف يستشعر معنى العزة والكرامة من عَرِى جسده وجاع بطنه..؟!!
فلما عزم ومضى كان قد خلَّف وراءه، أمه مقبولة الدعوات.. طاهرة الفهم.. تقود ولا تنقاد.. تؤثر ولا تتأثر.. توجه ولا تتوجه.
ففي بضع سنين قصار؛ كان هناك من يهتف به، ويقتل من أجله.
لقد عرف رجل الشارع بدعوته حقيقة وجوده.. وغاية حياته؛ فهتف من أعماقه: "الله غايتنا
الرسول قدوتنا.. القرآن دستورنا .. الجهاد سبيلنا.. الموت في سبيل الله أمنيتنا".
وكانت قضايا أمته؛ حاضرة في أعماقه .. تُداخل نفسه على مهل.. دون اقتحام أو عناء.. فكان يقول: فلسطين الجريحة يتهددها التقسيم.. وباکستان الناشئة يتهددها العدوان الوثنى المسلح.. وإندونيسيا المسلمة تعانى وتحرم.. وطرابلس وبرقه تلك التي تجهز لها حبائل الاستفتاء.. ولا يعلم عواقب ذلك الا الله..
جنوب إيطاليا وصقلية وجزر بحر الروم والأندلس الإسلامية.. تلك الأصقاع التى سعدت بالإسلام حيناً، ثم أصابها نكد الطالع فانحسر عنها ذلك النور. نتألم ونحن نراها تتأرجح بين ما أراده لها أعداؤها.. من وضع اجتمتاعيٍ شائهٍ ممسوخ… وما يريده لها ربها من وضع اجتماعيٍ سليم يقوم على تعاليم الإسلام وهديه وإرشاده.
والسودان الشقيق.. وهو مصر الجنوبية، أما مصر فهى السودان الشمالية. وكلانا وادى النيل.. جرت فى عروقنا مياهه.. زبنيت أجسادنا من طينه وطميه. ولايزال الإسلام يشق طريقه إليه رغم ما بذل فى سبيل منعه من جهود هدامة.
لن نسكت على هذه الحال!!! وإن كلفنا ذلك راحتنا وحياتنا.. سوف نعبر بدعوتنا إلى مراحل وغايات .. بشعارات ومهارات.. حتى نبلغ بها آفاق الأرض، ونخضع لها كل جبار.
ويقولون متى هو؟!! قل عسى أن يكون قريبا.
من أجل ذلك .. أيقظ الرجل وعي.. وجهز جيشاً.. وخاض حرباً من أجل قضايا أمته الكبرى .. الحاضرة القريبة.. العادلة الرحيمة.. رغم ما أصابها من الجراحات.. وسقط حوله الشهداء…
ومن بقِىَ منهم خضبت الدماء محاسن وجهه!!
ولا نزال نرفع رايتنا عالية خفاقة فى الأفقِ!!
لأجل ذلك .. لم يكن الغرب ليقف مكتوف الأيدي أمامه.. ولم يكن هناك بُدٌّ من إيقافه، بالإطاحة به أو باغتياله.. وهو ما كان!!
كما أن الشرق لم يستطع أن يحتفظ طويلا بالكنز الذي بين يديه.. وهو ما كان !!
فسقط الرجل مضرَّجًا في دمائه على قارعات الطرق.. برصاصات غادرات!! في ليلة مظلمة شاتية حزينة !!
لم تكن ألف خطبة وخطبة، من كلمات الفقيد الشهيد، لتثير في النفس ما أثاره ذلك الدم الزكي المهراق !!
لن يمر وقت طويل حتى يقول التاريخ النظيف فيه كلمته !! ويروي الراوي الصادقُ عنه يوما قصته !! لقد مر الرجل في تاريخ مصر مرور الطيف العابر الذي لا يتكرر.. لقد كان الكلمة التي سبقت وقتها، بل التى لم يأت وقتها بعد!! رحمه الله رحمة واسعة وأجزل له المثوبة والعطاء.
﴿ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ ۚ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً ۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ ۚ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ﴾[الرعد:17].
الدكتور صلاح عبدالحق
القائم بأعمال فضيلة المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمون
13 شعبان 1446هـ؛ الموافق 12 فبراير 2025