التاريخ : الجمعة 07 مارس 2025 . القسم : مع الشباب

جيل التمكين جيل يُحسن الحياة في سبيل الله كما يُحسن الموت في سبيل الله


جيل التمكين جيلٌ حيٌّ، يعيش الحياة النظيفة الطاهرة، ينعم بخيرها ويتمتع بها في ضوء إرشاد ربه وتوجيهه لها، فهو غير منعزل عن الدنيا، ولا داخل كهف بعيد عن الحياة والأحياء، بل هو قاطرةٌ لمن حوله، وداعيةٌ لمن سواه، يُدرك أنه صاحب رسالةٍ وهدايةٍ، يريد أن يُرشد الناس إليها ويَدُلّهم عليها، ويُوقن بأن طيبات الحياة في الأصل هي للمسلم، ومن عداه تبعٌ له، قال الله تعالى:

{يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32)} [الأعراف: 31-32].

ويعلم أنه مُطالب بإعمار الحياة أياً كانت إمكاناته وقدراته، وعلى قدر ما لديه، "فالإمداد على قدر الاستعداد".

يمضي بهذه النظرة في الحياة، فيسير على الأرض ورأسه في السماء، يعيش في الدنيا وقلبه في الآخرة، يعلم أن الحياة في سبيل الله مثل الموت في سبيل الله سواءً بسواء، ذلك لأنه مطالبٌ بإعمار الدنيا بالدين، يخضعها لمنهاجه، ويسيرها حسب تعاليمه وهديه، فإذا تعلّم، تعلّم باسم الله، وإذا قرأ، قرأ باسم الله، كما قال الله تعالى:

{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2)} [العلق: 1-2].

وإذا طَعِمَ أو شَرِبَ، فباسم الله، يستحضر قول النبي ﷺ:

"إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة، فإن استطاع أن لا تقوم حتى يغرسها فليغرسها".

إن المسلم حين يفهم هذا الترابط بين الدنيا والآخرة، وبين العبادة والعمل، وأن الذي يربط الكل خيطٌ واحدٌ وغايةٌ واحدةٌ، تنتظم الأشياء في رأسه، وتتجمع الصورة في مخيلته، بل ترتسم أجزاؤها وتتماسك في ناظريه، وحينها يمضي في الدنيا بروح الآخرة، ويعمر الأرض باسم الله، ويستطيع أن يحيا مع غيره أينما كانت وجهته، وأينما كان اتجاهه في الحياة، فتسع الدنيا الجميع.

وقد كان الرسول ﷺ الترجمة الكاملة الصادقة للحقيقة الإسلامية، ومن ثم كانت الدنيا والآخرة في نفسه طريقًا واحدًا، ونهجًا واحدًا، و"حسبة" واحدة. لقد كان ﷺ يحارب في سبيل الله، ويسالم في سبيل الله، ويدعو الناس إلى سبيل الله، ويأكل باسم الله، ويتزوج على سنة الله، ويهدم ويبني، ويحطم وينشئ، ويهاجر ويتوطن، كل ذلك في سبيل الله واليوم الآخر، يوم يلقى الله.

رسالة الإسلام في الحياة للأحياء لا للأموات

الناظر في آيات القرآن وتوجيهاته للإنسان يجد أنها تعنى بجانب الحياة والإعمار، ولو حصرنا الآيات التي تناولت الأرض، والبحار، والأمطار، والشمس، والقمر، والليل، والنهار، وظواهر الكون، وقارناها بالآيات التي ذكرت العبادات، لَبَان لنا إلى أي مدى يعنى الإسلام بالحياة وإعمارها.

والمسلم مطالب بالوقوف عند هذه الإشارات والتصريحات حتى يعمر الأرض باسم الله. وعندما طالب الله عباده بالسير في الأرض، أمرهم أن يتسنّموا قممها، ويرتفقوا خيرها، ولا يكتفوا باليسير السهل من عطائها، فقال الله تعالى:

{فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك: 15].

إن المسلم مُطالبٌ بأن يُسَخِّر الدنيا للدين، ويعمل في الدنيا وعينه على الآخرة، ولقد عاش الرسول ﷺ والصحب الكرام هذا المعنى، فعملوا في الدنيا بقلوب أهل الآخرة، وعملوا للآخرة عن طريق الدنيا، فكانوا "رهبانًا بالليل، فرسانًا بالنهار".

دور الأمة في الشهود الحضاري وعلاقته بالتمكين

ومن يتأمل في آيات القرآن يجد هذا الدفع الحضاري المتين إلى الأمام، فقد بين القرآن أن وظيفة الأمة تكمن في الشهادة على الناس، وهذا سرّ جعلها "الأمة الوسط"، قال الله تعالى:

{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143].

فهذه الآية تُعلّل وسطية الأمة بشهادتها على الناس، وهذه الشهادة إما بالإخبار، وإما بالشهود والحضور، والوسط من كل شيء أفضله وأعدله وأقربه.

إن الأمة مؤهلة بهذه الوسطية، التي هي من خصائصها، لأن تكون شاهدةً على الناس في الآخرة بتعديل العدل وتجريح المجروح، وفي الدنيا بضبط معايير الناس في الحياة، ونشر الخير والعدالة، وتعبيد الناس لله، وذلك هو هدف التمكين الذي تبتغيه، ورسالته التي تسعى إليها.

علاقة التمكين بفهم المسلمين لرسالة الإسلام

والتمكين للإسلام مرتبطٌ بفهم المسلمين لرسالته على الوجه الذي يريده الله منهم، لا على الوجه الذي تمليه عليهم بيئاتهم، أو أعرافهم، أو عاداتهم، أو تقاليدهم.

"فهناك فرق بين تعاليم إسلامية وتقاليد بشرية".

ولو وَعَى المسلمون رسالة القرآن والإسلام وأحسنوا عرضها، لتغير حالهم وحال من يتعاملون معهم من الأمم، "فالوعي أساس السعي".

وقد طالب الله المؤمن بهذا الوعي والفهم قبل أي شيء، حتى قبل الاعتقاد، وسماه الله "علمًا"، فقال تعالى:

{فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد: 19].

فطالب الله المؤمن بالعلم قبل العقيدة والعمل، وضبط المعايير والمفاهيم لدى المسلمين أمرٌ بالغ الأهمية.

وإذا تتبعنا النماذج التي مُكِّن لها في الأرض، وجدنا هذه الصفة معلمًا من معالم حياتهم.