التاريخ : السبت 15 مارس 2025 . القسم : الإدارة والابتكار

الثغرة الخفية: رحلة البحث عن الحلقة المفقودة بين رسالة المؤسسات وأدائها الفعلي


بقلم د. علي يلماز مستشار التطوير المالي والإداري

تسعى المؤسسات -خاصة العتيقة- جاهدة لصياغة رسالات طموحة، لكن كثيراً ما تصطدم بفجوة عميقة بين هذه الطموحات والواقع العملي، هذه "الثغرة الخفية" بين ما تعلنه المؤسسة وما تمارسه فعلياً تجسد مصداق قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾. هذه الآية ليست اتهاماً بالنفاق، بل هي دعوة للتوافق بين الأقوال والأفعال، بين المخطط والمنجز، وهو ما تحتاجه مؤسساتنا اليوم.

تكمن أهمية توصيف هذه الثغرة في أن المؤسسة التي تدرك ثغراتها ستتمكن من تحويل رسالتها وخططها إلى واقع ملموس وتحقق مستويات أعلى من الإنتاجية والرضا الوظيفي، وتكتسب ثقة أكبر من المتعاملين معها. 

في هذا المقال سنتعمق في فهم هذه الثغرة، ونستكشف مظاهرها وأسبابها وتداعيتها ليدرك القائمون على أمرها ثغراتها ثم يقومون بواجبهم تجاهها.

عند تشريح هذه الثغرة، نكتشف أنها تتجلى في مستويات متعددة متداخلة:

على المستوى الاستراتيجي، تظهر الفجوة عندما يفشل القادة في ترجمة الرؤى الطموحة أو الرسالة العامة إلى خطط عمل واقعية قابلة للتنفيذ، هذا الانفصال بين الرؤية والبعد التطبيقي يخلق حالة من الارتباك الاستراتيجي، حيث تبقى البوصلة المؤسسية تشير إلى وجهة بينما تسير السفينة في اتجاه آخر.

على المستوى التنظيمي، تتعمق الفجوة حين تعمل الهياكل والأنظمة والإجراءات كعوائق بدلاً من كونها آليات داعمة لتحقيق الرسالة، يتحول التنظيم من أداة لتمكين الرؤية إلى حاجز بيروقراطي يكرس الانفصال بين الطموح والواقع، ويجعل من الصعب تدفق المعلومات والموارد في الاتجاهات التي تخدم تحقيق الرسالة.

على المستوى القيمي، تبرز الفجوة في التناقض بين القيم المعلنة والسلوكيات اليومية داخل المؤسسة، عندما تتبنى المؤسسة قيماً معينة مثل الشفافية أو التمكين أو التعاون، بينما تكرس ممارساتها الفعلية ثقافة مختلفة تماماً، يتشكل صدع قيمي يقوض المصداقية ويخلق حالة من الازدواجية الأخلاقية.

على المستوى الإدراكي، تتمثل الفجوة في التباين بين صورة المؤسسة الذاتية وتصورات أصحاب المصلحة لها، هذا الانفصام الإداركي يعكس حالة من العمى المؤسسي تجاه الواقع، حيث تعيش المؤسسة في فقاعة من التصورات المثالية عن ذاتها، منفصلة عن الإدراك الحقيقي للشركاء والمنتسبين والمجتمع.

هذه المستويات المتعددة للفجوة لا تعمل بمعزل عن بعضها، بل تتفاعل وتتشابك في منظومة معقدة تعزز استمرارية الفجوة وتقاوم محاولات تجسيرها، مما يجعل من فهمها وتفكيكها الخطوة الأولى نحو بناء مؤسسات أكثر اتساقاً وفعالية.

ومن زاوية أخرى تظهر الثغرة في الفجوة بين الاستراتيجية والتنفيذ، حيث توجد خطط استراتيجية مكتوبة لكنها لا تترجم إلى خطوات تنفيذية على أرض الواقع، والفجوة بين القيم المعلنة والممارسة، حيث تتبنى المؤسسة قيماً رسمية لا تنعكس في سلوك قيادتها ومنتسبيها، والفجوة بين الوعود والإنجاز، حيث تقدم المؤسسة وعوداً لأصحاب العلاقة لا تستطيع الوفاء بها، والفجوة بين الصورة والواقع، حيث تقدم المؤسسة نفسها بصورة لا تتطابق مع حقيقة أدائها.، والفجوة بين القول والفعل، حيث يتحدث قادة المؤسسة عن مبادئ وتوجهات لا تتجسد في قراراتهم الفعلية، والفجوة بين المسؤولية والمساءلة، حيث توزع المسؤوليات دون ربطها بنظام مساءلة يحاسب على النتائج، والفجوة بين المعرفة والتطبيق، حيث تمتلك المؤسسة معرفة ودراية بما يجب فعله لكنها لا تطبقه، 

تداعيات الثغرة، لهذه الثغرة الخفية تداعيات وآثار  إن استمرت الثغرة فستكون أول مسمار في نعشها، وأهم هذه التداعيات:

ضعف الأثر وعدم تحقيق الأهداف، ومحدودية النتائج مقارنة بالطموحات المعلنة وعدم تحقيق مؤشرات الأداء المستهدفة رغم وضوح الرسالة، فالمؤسسة التي تعلن عن رسالة "إحداث تغيير إيجابي في المجتمع" تفشل في إحداث أثر ملموس، وتلك التي تتبنى رؤية "الريادة والتميز" قد تجد نفسها متراجعة عن مستواها السابق، والأخطر هو استمرار المؤسسة في تكرار الأخطاء ذاتها عاماً بعد عام، دون تعلم أو تطور حقيقي، تتغير الشعارات والعناوين، لكن المشكلات الجوهرية تظل قائمة، متناقضة مع هدي النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يُلدغ المؤمن من جحر مرتين".

تدهور الرضا لدى كل الأطراف، حين تتسع الثغرة بين الرسالة والتطبيق، ينعكس ذلك بشكل مباشر على المنتسبين في صورة إحباط وفقدان للدافعية، وتتحول بيئة العمل إلى بيئة طاردة للكفاءات، حيث ينخفض الولاء المؤسسي وتتآكل الهوية المشتركة، ويُنظر للانتساب للمؤسسة على أنه مصدر رضا تفسي لا غير.

المنتسب الذي ينضم للمؤسسة متحمساً لرسالتها، سرعان ما يصطدم بالواقع المغاير، فيصاب بخيبة أمل تتحول تدريجياً إلى سخرية من الشعارات المرفوعة، ولربما وينسحب هذا السخط إلى المتعاملين الخارجيين، الذين يلاحظون الفرق بين وعود المؤسسة وإنجازاتها الفعلية.

فقدان الثقة وتصدع العلاقات، حيث تؤدي الثغرة المستمرة إلى أزمة ثقة حادة بين مختلف مستويات المؤسسة، فحين تتكرر الفجوة بين الوعود والواقع، بين الخطط والنتائج، تبدأ الثقة في التآكل، تظهر هذه الأزمة في شكل توجس دائم من قرارات القيادة وتشكيك في نواياها، وتفسير كل تغيير على أنه يخفي أجندات مستترة، ومن جانبها، تلجأ القيادة إلى تشديد الرقابة وسحب الصلاحيات وإبعاد بعض الكفاءات، مما يؤدي إلى دوامة سلبية من عدم الثقة المتبادلة، في مناخ كهذا تسود ثقافة "تصيد الأخطاء" و"لعبة اللوم"، بدلاً من ثقافة التعاون والتكامل.

جذور (أسباب) الثغرة الخفية، تبدو جذور هذه الثغرة في عدة نقاط أهمها:

الانفصال بين القيادة العليا والمستويات التنفيذية، عندما تعيش القيادة العليا في برج عاجي بعيداً عن واقع العمليات اليومية، مما يؤدي إلى اتخاذ قرارات وصياغة رؤى غير واقعية لا تتناسب مع التحديات الميدانية التي تواجهها المستويات التنفيذية، فضلا عن ضعف قدرات القيادة في أداء مهامها التي لا يؤديها غيرها.

الهياكل التنظيمية المعقدة والبيروقراطية، تعدد المستويات الإدارية وتشابك خطوط السلطة والمسؤولية، مما يخلق حواجز تنظيمية تعيق تدفق المعلومات وتنفيذ المبادرات وتؤدي إلى بطء الاستجابة للتغيرات.

قصور أنظمة المحاسبة والمساءلة، ضعف آليات متابعة التنفيذ وتقييم النتائج، وغياب المساءلة الفعالة عن مدى تحقيق الأهداف المرتبطة بالرسالة، مما يسمح باستمرار الانحراف عن المسار دون تصحيح.

ضعف التواصل الداخلي ونقل المعلومات، ومحدودية قنوات التواصل الفعال بين مختلف المستويات والأقسام، وتشويه المعلومات أثناء انتقالها عبر الهرم التنظيمي، مما يؤدي إلى فهم مختلف للأولويات والأهداف.

ضعف آليات التغذية الراجعة والتعلم المؤسسي، وافتقار المؤسسة إلى أنظمة منتظمة لجمع وتحليل المعلومات عن أدائها وتأثيرها، وضعف قدرتها على التعلم من تجاربها وتعديل مسارها، مما يجعلها تكرر أخطاءها وتستمر في الفجوة بين طموحاتها وإنجازاتها.

ويبدو دور القيادة في تكريس الثغرة، فيضعف قناعتها بأهمية وأثر التخطيط يجعلها تتعامل مع الأمور بعشوائية، مع ضعف اهتمام القيادة بالتقييم والمتابعة، مع قصور المهارات القيادية الضرورية كالتفكير الاستراتيجي وإدارة التغيير والتواصل الفعال، وانشغال القيادة بمهام تشغيلية على حساب مسؤولياتها الرئيسية والعمل باستراتيجية "إطفاء الحرائق" بدلاً من التخطيط المنهجي تنشأ بيئة تعتمد على ردود الأفعال العاجلة، وتسهم شللية الإدارة -عندما توجد- في تعميق الفجوة عندما تحصر القيادة تواصلها في دائرة ضيقة من المقربين، ومع ضعف التواصل مع الأعضاء، تتولد تفسيرات متباينة للقرارات، ويغيب الفهم المشترك لكيفية تطبيقها.

و يسهم أعضاء المؤسسة في توسيع الثغرة الخفية من خلال ضعف الهمة وفتور العزيمة في تطبيق الرسالة، ويكتفي الكثيرون بالحماس المؤقت عند جرعة تحفيز، ثم سرعان ما يعودون إلى سابق فتورهم، ويزداد الأمر تعقيداً مع انشغالهم بالهموم الحياتية، فتصبح المؤسسة ورسالتها في ذيل أولوياتهم.

ويظهر نزوع الأعضاء لسياسة "تكبير الدماغ" في تجاهلهم للممارسات المخالفة للرسالة بدعوى أنها ليست مسؤوليتهم المباشرة، أو أن التغيير مسؤولية القيادة وحدها، مما يخلق ثقافة من اللامبالاة.

وتتفاقم المشكلة حين يتعود الأعضاء على الفجوة بين الرسالة والتطبيق، فيصبح وجود الثغرة أمراً طبيعياً لا يستدعي الاهتمام، وتتعمق مع تبادلهم لقصص الإحباط وتجارب الفشل، مما يعزز القناعة بأن محاولات التغيير ستفشل، وأن التكيف مع الواقع المنفصل عن الرسالة هو الخيار الأكثر واقعية.

كيفية تجسر المؤسسات الثغرة الخفية؟ 

لجسر الثغرة الخفية بين الرسالة والواقع هناك عدة متطلبات تتناسب مع أسبابها وجذورها في مقال لاحق بعون الله.