
التاريخ : الخميس 05 يونيو 2025 . القسم : رسالة الإخوان
عيد التضحية والفداء
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم النبيين وسيد المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين إلى يوم الدين. وبعد:
فهذه الأيام المباركات - وما يتلوها من أيام عيد الأضحى المبارك - هي من أعظم أيام الله.. والعمل الصالح فيها من أفضل الأعمال.. كما أخبر المعصوم صلى الله عليه وسلم.
والسمة الغالبة فيها هي: التضحية والفداء، والبذل والعطاء، وتقديم الغالي والنفيس؛ ابتغاء مرضاة الله تعالى ونصرةً لدينه، ونشرًا للحق والعدل في ربوع العالمين..
ولقد ضرب الخليل إبراهيم عليه السلام - أبو الأنبياء- وأسرته الجليلة، أروع الأمثلة في البذل والتضحية، والصبر والصمود.. فقد تعرض لابتلاءات شديدة في كل مناحي الحياة، فنجح فيها جميعا؛ حتى نال الثناء من الله والإمامة في الدين.. ﴿ وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ۖ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ۖ ﴾[سورة البقرة: 124]. ﴿وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّىٰ﴾[سورة النجم:37].﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِّلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾[النحل:120].
ابتُلى في مجال العقيدة .. فواجه عُبّاد الأصنام ، وعُبّاد الكواكب ، وعُبّاد الطواغيت من الحكام .. فقاومهم جميعاً.. وأقام عليهم الحجة، وانتصر على مكائدهم وشبهاتهم ﴿ قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ ﴾[سورة الأنبياء: 69-70]. ﴿ ... قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ﴾[الأنعام:76].
﴿فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ [البقرة: 258].
وابتُلى بكثرة الهجرة والترحال.. بين العراق والشام ومصر والحجاز .. داعيًا إلى الله ورافعًا لواء التوحيد، وبانيًا للكعبة المشرفة وداعيًا إليها البشرية جمعاء.. ﴿ وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ﴾[الحج:27].
وابتُلى في أسرته وخاصة نفسه ... فحُرم من الولد حتى بلغ من الكبر عتيا ، ثم لما جاءه الولد؛ أُمر أن يذهب به وبأمه (هاجر) إلى مكان موحشٍ بعيد ﴿ بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ ﴾[إبراهيم: 37].. ثم لما عَمُر المكان ببركاته وانفجرت مياه زمزم، وبلغ الغلام معه السعي؛ أُمر أن يذبحه بنفسه - قمة الابتلاء - فكان الخضوع من الوالد الكريم، والأم الصابرة، والولد البار، والاستسلام لله سبحانه وتعالى ﴿ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَىٰ ۚ قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ ۖ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ﴾[الصافات:102].. فكان الجزاء العظيم ، والرضوان الكريم، والذكر الواسع العميم ﴿ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلَامٌ عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ﴾[الصافات: 107-109].
إن الإيمان ليس كلمة تقال باللسان، ولكنه يقين بالله تعالى، يدفع الإنسان الصادق لأن يجود بأغلى ما يملك فى الحياة - نفسه ودمه وماله - ابتغاء مرضاة الله..﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ﴾[التوبة:111].
وعلى مدار التاريخ ... كان البذلُ والعطاء ، والتضحية والفداء؛ شعار الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين .. وكما قال الله تعالى ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم ۖ مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ ۗ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾[البقرة:214]. وكما قال نبينا الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم : (...ألا إن سلعةَ اللهِ غاليةٌ ألا إن سلعةَ اللهِ الجنةُ).
*****
وتُطوى صفحات الزمن؛ لنرى ملحمة الصبر والصمود القائمة الآن على الأرض المقدسة فى فلسطين وأكناف بيت المقدس.. صراع رهيب بين الحق الناصع النقي الطاهر، والباطل المجرم المدنس بكل القبائح، والمسلح بكل أسلحة الدمار والخراب ..
- أهل فلسطين الأبرار الأطهار: الرجال والنساء والأطفال .. الجميع.. يدافعون عن دينهم وأرضهم وتراث أجدادهم، ويقدمون أرواحهم ودماءهم وأموالهم في سبيل الله ..
- وقوم أشرار .. أتوا من شتات الأرض .. يحملون الكراهية والحقد للبشرية جمعاء.. يستبيحون الدماء والأعراض والممتلكات، ويدمرون كل مظاهر الحياة ..
ولا تزال الدماء تسيل، والأرواح تزهق، والأطفال يموتون ويشوهون ويحاصرون ويجوَّعون ويحرقون ويشردون.
وحكومات العالم "المتحضر" (!) يتفرجون .. ولا يحركون ساكنًا لما يقارب العامين من الدمار الشامل والتقتيل والتجويع.. بل منهم من يمد الصهاينة المعتدين بكل أنواع السلاح والعتاد والمال !! ويستعجلونهم لإتمام المهمة الدنيئة، التي تهدف إلى طرد أصحاب الأرض الحقيقيين وأن يُستبدل بهم الغرباء المعتدون!
لك الله يا فلسطين.. ويا كل أبناء فلسطين البررة.. واللهِ لن تضيع دماؤكم هباءً ، ولن تذهب أرواحكم سدى..
لقد اشترى الشهداءُ منكم الجنة - وربحوا - وهم الآن ﴿ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾[آل عمران: 169-170].
ومن بقوا منهم على قيد الحياة؛ أقاموا الشهادة والحُجَّة على البشرية جمعاء.. وسيعيشون نبراسًا وقدوةً لمن أراد أن يعيش للحق.. مقيمًا له ومدافعًا عنه.. ما بقي الليل والنهار!
لن ينسى العالَم (إسماعيل هنية، ويحيى السنوار، ومحمد الضيف) وأمثالهم من القادة العظام، وآلاف الشهداء الأطهار الأبرار..
ولن ينسى العالَم الرئيس الشهيد (محمد مرسي) الذي دافع عن غزة لآخر رمق .. وإخوانه الشهداء، وعشرات الألوف من المسجونين والمسجونات ظلمًا خلف الأسوار..
ولن ينسى العالَم (خنساوات العصر)... الصابرات المحتسبات، وآخرهن الطبيبة الأسطورة (آلاء النجار).. مثال التضحية والفداء، والبذل والعطاء، والنبوغ والتفوق والطهر والنقاء..
إنكم تسيرون على نهج الأنبياء، وسيحرز الله لكم النصر العزيز الغالى بعد أن دفعتم أعز الأثمان، وستطهُر الأرض المقدسة قريبًا من رجس الصهاينة المجرمين، وسينبذهم العالم كله، بعدما رأى من بشاعتهم وقسوتهم ووحشيتهم واستهتارهم بكل مقدسات الحياة..
وقريباً ترتفع رايات النصر وأصوات التكبير فى بيت المقدس وأكناف بيت المقدس..
ويومئذ يكون العيد الأكبر.. ﴿ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ ۚ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ ۖ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ وَعْدَ اللَّهِ ۖ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾[الروم: 4-6].
والله أكبر ولله الحمد
الدكتور صلاح عبد الحق
القائم بأعمال فضيلة المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين
الخميس 9 ذو الحجة 1446هـ؛ الموافق 5 يونيو 2025م