التاريخ : السبت 28 يونيو 2025 . القسم : رسالة الإخوان

عام هجري جديد.. بين الألم والأمل


الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين..

تستقبل الأمة الإسلامية عامًا هجريًا جديدًا، يحمل في طياته ذكريات الأمة المجيدة، وتحدياتها الراهنة، وآمالها المستقبلية. فالتقويم الهجري ليس مجرد تقسيم زمني، بل هو جزء من هويتنا، يذكرنا بهجرة النبي صلى الله عليه وسلم، تلك النُّقلة العظيمة التي غيرت مسار التاريخ. 

يُقبل علينا العام الهجري الجديد، حاملًا رمزية عميقة تتجاوز كونه حدثًا تاريخيًا لبداية تقويم، إلى كونه محطة تجديد إيماني وفكري، وفرصة لمراجعة النفس والواقع، واستلهام الدروس من أعظم لحظة فاصلة في التاريخ الإسلامي: لحظة الهجرة.

إنَّ الهجرة النبوية كانت انطلاقة حضارية مدروسة، نقلت المسلمين من مرحلة الضعف إلى التمكين، ومن حال الاستضعاف إلى حال بناء الدولة، وصياغة مشروع أمة قائمة على التوحيد والعدل والرحمة. 

واليوم، ونحن نستقبل عامًا هجريًا جديدًا )1447هـ( لا بد أن نسأل أنفسنا: أين المسلمون من هذا المعنى؟ ما حالهم بين الأمم؟ ما وجه الشبه بين حالهم في مكة قبل الهجرة، وحالهم اليوم في خضم الأحداث التي نعيشها؟ وكيف يمكننا أن نجعل من الهجرة نقطة انطلاق لنا نحو التغيير والنهضة؟

لا يخفى على أحد ما تعانيه الأمة الإسلامية اليوم من أزمات متعددة، منها:

  1. الانقسام والضعف: فالأمة التي كانت يومًا قائدة للحضارة، أصبحت ممزقة بين صراعات داخلية وتدخلات خارجية. قال تعالى:﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ [الأنفال:46].
  2. الاحتلال والاضطهاد: أهلنا في فلسطين وفي غزة على وجه التخصيص يعيشون تحت نير الاحتلال الصهيوني المجرم، مدعوما من القوى الغربية وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية. حيث يعيش أهل غزة الحصار الخانق، بعدما هدمت بيوتهم، وكثر شهداؤهم، وجرحاهم،  وانقطعت عنهم أسباب الحياة. والعالم يتفرج، والمسلمون لا يفعلون شيئا ذا جدوى، لإنقاذ إخوانهم المسلمين في غزة؛ بعدما كبَّلتهم النظم الاستبدادية. بل تعاني الأمة من غطرسة العدو الصهيوني الذي عاث في الأرض فسادا وتدميرا، في الدول العربية والإسلامية، كما حدث في سوريا و اليمن و لبنان، وغيرها، وآخرها الاعتداء السافر على  إيران .
  3. الأزمات الاقتصادية والفقر: تعاني العديد من الدول الإسلامية من الفقر والبطالة، رغم ثرواتها الهائلة، بسبب سوء الإدارة والفساد، وتغلب الأجنبي على خيرات البلاد.
  4. الهُوية المهددة: يواجه شبابنا غزوًا ثقافيًا يهدف إلى طمس هويته، عبر وسائل الإعلام والتعليم، مما يجعله يعيش أزمة انتماء.
  5. البعد عن الدين: في خضم التوجه الغربي العالمي(العلمانية) والحياة المادية، ابتعد الكثيرون عن القيم الإسلامية، فأصبحت العبادات شكلًا بلا روح، والمعاملات مادية بلا ضمير. بل إن منابر الدعوة أُخرست، ولم يعد أحد يسمع شيئا إلا صوتا واحدا، هو صوت النظام. 

أضف إلى ذلك مخطط "الديانة الإبراهيمية" الذي وصف بأنه كيد منظم موجه للأديان وخاصة الإسلام. وأن له انعكاسات خطيرة على المعتقدات و الثوابت الإسلامية.

  الاستبداد: يعاني كثير من المسلمين من الحكم الاستبدادي الذي سلبهم الحرية في حياة كريمة، قائمة على مراعاة الحقوق وأداء الواجبات، وتقديم المنفعة العامة على الخاصة، كما سلبهم استقلال الإرادة. 

علامات الأمل والنهضة

  1. رغم هذه التحديات، فإن الأمة الإسلامية لا تزال تحمل في داخلها بذور النهضة، ومن علامات الأمل:
  2. صحوة الشباب والعودة إلى القرآن والسنة : هناك جيل جديد من الشباب المسلم يعتز بهويته،  يفهم الاسلام فهمًا صحيحًا بعيدًا عن التطرف و الانحراف ، ويبحث عن العلم النافع ، ويسعى للتغيير الإيجابي. وهناك نماذج مشرقة في العالم الإسلامي، من علماء ومخترعين وقادة، يثبتون أن الأمة قادرة على العطاء.
  3. الشعور بالانتماء إلى الأمة والدعوة إلى وحدتها: تزداد الدعوات بين العلماء والقادة لتوحيد الصفوف،  ونسيان الخلافات الثانوية، ورفض تقسيمات"  سيكس- بيكو " و العودة الي الامة الواحدة. ولقد ساعدت التقنيات الحديثة في تواصل المسلمين حول العالم مما يعزز الوحدة ويقوي الدعوة.
  4. الصبر والثبات وإيمان يقينيٌّ بنصر الله عز وجل : إن الأمة الإسلامية - رغم محاصرة الاستبداد والأعداء لها - أثبتت خلال أحداث فلسطين و غيرها؛ أنها متمسكة بإسلامها ، مقدمة أغلى التضحيات في سبيل الله عز وجل ، مصممة على النهضة و بناء حضارتها. 
  5. مناصرة أحرار العالم لقضايا العالم الإسلامي العادلة : لقد رأينا كيف خرجت المظاهرات والمسيرات بمئات الآلاف في أوروبا، وكيف أثَّر ذلك- إيجابيًا- على الموقف الأوروبي، بل كانت المظاهرات – ومازالت- في كل بلاد الدنيا تندد بالحرب على غزة ( لك أن تتخيل أن 86.6% من الذين تم توقيفهم في المظاهرات الأمريكية المناصرة لغزة؛ كانوا من غير المسلمين!) ، وأصبح لدى أحرار العالم قناعة بظلم دولة الاحتلال ومن يدعمها، ونعتقد أن ذلك سيكون له ما بعده، على مستوى الدعوة و السياسة.

إن من دروس الهجرة العظيمة التي يجب أن يعيها كلُّ مسلم، ويعمل لها؛  أن الإسلام وضع أسس النهضة والحضارة التي تحتاج إليها الأمم القوية، وتحتاج إليها الحضارات. فالإسلام عماد نهضة الأمة. 

    يقول الإمام البنا رحمه الله»  ليس في الدنيا نظام يمد الأمة الناهضة بما تحتاج إليه من نظم وقواعد وعواطف ومشاعر كما يمد الإسلام بذلك كله أممه الناهضة«.  وإنّ السير على هذا المنهج وتشييد النهضة على أصول الإسلام يأتيان تقويةً للوحدة العربية أولًا، ثم للوحدة الإسلامية ثانيًا.   

العام الجديد نقطة تحول

لقد كانت الهجرة، رغم ألمها ومخاطرها، بداية عهد جديد. واليوم؛ نحن بحاجة إلى هجرة من نوع آخر: 

  1. هجرة إلى الله عزَّ وجلَّ : بالتوكل عليه والاعتماد عليه، ونبذ كل ما يبعدنا عن الله؛ فيكون الله تعالى هوالأعظم والأكبر في قلوبنا من كلِّ ما سواه.
  2. هجرة إلى مشروع النهضة : هجرة من التبعية إلى الاستقلال، من الغثائية إلى الفاعلية، من التناحر إلى التآزر، ومن الغفلة إلى اليقظة. نحتاج إلى أن نُهاجر بأفكارنا، وسلوكنا، ومناهج تعليمنا، وخططنا الاقتصادية، نحو مشروع نهضة متكامل، لا يقوم على ردود الأفعال، بل على البناء المتين.
  3. هجرة إلى الإيمان والوحدة و الحركة و التغيير  : ومع كل عام هجري جديد، تتجدد مسؤوليتنا تجاه أنفسنا، وأسرنا، ومجتمعاتنا، وأمتنا. فالتقويم الهجري ليس تقليدًا تاريخيًا، بل تذكير دائم بأن الإسلام دين حركة وتغيير، لا جمود وتكرار. وأن كل عام جديد هو فرصة للهجرة من حال إلى حال، ومن ضعف إلى قوة، ومن تشتت إلى وحدة. لن يكون العام الهجري الجديد مجرد رقم يتغير، بل يجب أن يكون منعطفًا نحو التغيير. إن التاريخ يعلمنا أن الأمة الإسلامية مرت بأزمات أشد، لكنها نهضت بإيمانها ووحدتها. 
  4. هجرة إلى مشاعر ثلاث تبدل سيئات المادية إلى حسنات الربانية: يقول الإمام البنا عليه رحمة الله: « وبهذه المشاعر الثلاثة : الإيمان بعظمة الرسالة، والاعتزاز باعتناقها، والأمل في تأييد الله إياها ، أحياها الراعي الأول صلى الله عليه وسلم في قلوب المؤمنين من صحابته بإذن الله،  وحدد لهم أهدافهم في هذه الحياة ، فاندفعوا يحملون رسالتهم محفوظة في صدورهم أو مصاحفهم ، بادية في أخلاقهم وأعمالهم معتدين بتكريم الله إياهم واثقين بنصره وتأييده،  فدانت لهم الأرض وفرضوا على الدنيا مدنية المبادئ الفاضلة وحضارة الأخلاق الرحيمة العادلة، وبدلوا فيها سيئات المادية الجامدة إلى حسنات الربانية الخالدة. ويأبى الله إلا أن يتم نوره».
  5. هجرة إلى قوة نفسية عظيمة  : يقول الإمام البنا : "إن تكوين الأمم، وتربية الشعوب، وتحقيق الآمال، ومناصرة المبادئ: تحتاج من الأمة التي تحاول هذا أو الفئة التي تدعو إليه على الأقل، إلى "قوة نفسية عظيمة" تتمثل في عدة أمور: إرادة قوية لا يتطرق إليها ضعف، ووفاء ثابت لا يعدو عليه تلون ولا غدر، وتضحية عزيزة لا يحول دونها طمع ولا بخل، ومعرفة بالمبدأ وإيمان به وتقدير له يعصم من الخطأ فيه والانحراف عنه والمساومة عليه، والخديعة بغيره. على هذه الأركان الأولية التي هي من خصوص النفوس وحدها، وعلى هذه القوة الروحية الهائلة، تبنى المبادئ وتتربى الأمم الناهضة، وتتكون الشعوب الفتية، وتتجدد الحياة فيمن حرموا الحياة زمناً طويلاً. وكل شعب فقد هذه الصفات الأربعة، أو على الأقل فقدها قواده ودعاة الإصلاح فيه، فهو شعب عابث مسكين، لا يصل إلى خير، ولا يحقق أملاً، وحسبه أن يعيش في جو من الأحلام والظنون والأوهام. ﴿إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً ﴾ [يونس: 36] هذا هو قانون الله تبارك وتعالى وسنته في خلقه. ولن تجد لسنة الله تبديلا. ﴿إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾[الرعد:11].
  6. هجرة إلى الصبر و الثبات و العمل : العام الهجري الجديد يذكرنا بأن النصر مع الصبر، وأن الفرج يأتي بعد الشدة. فلنعمل جميعًا، كل من موقعه، لنجعل هذا العام بداية لنهضة حقيقية. ﴿وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: 139].
  7. هجرة إلى الجهاد في سبيل التمكين وإعزاز الشريعة : إن رسولنا الكريم  صلى الله عليه وسلم – قبل الهجرة - عندما عرض نفسه على القبائل؛ لم يقبل منها بأقل من أن يكون الحكم كلُّه لله تعالى، فكانت الهجرة إلى المدينة بداية التأسيس للدولة الإسلامية. وأوجب على جميع المسلمين الهجرة؛ ليشارك كلُّ مسلم في بناء تلك الدولة الإسلامية، ويعمل على إعمارها والدفاع عنها. فهي التي تُقام بها شريعةُ الإسلام. 

أيها المسلمون : عبادة ربكم و الجهاد في سبيل التمكين لدينكم و إعزاز شريعتكم هي مهمتكم في الحياة، فإن أديتموها حق الأداء فانتم الفائزون ، و إن أديتم بعضها أو أهملتموها جميعا فإليكم أسوق قول الله تبارك و تعالى : ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ فَتَعَالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ﴾ [المؤمنون: 115-116].

والله أكبر ولله الحمد.

  الدكتور صلاح عبدالحق

القائم بأعمال فضيلة المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين