
التاريخ : الأحد 29 يونيو 2025 . القسم : مقالات وآراء
المسارات المستقبلية للعلاقات الإيرانية الأميركية بعد حرب يونيو 2025
في 13 يونيو 2025 دخلت منطقة الشرق الأوسط مرحلة جديدة من التصعيد حين نفّذت قوات الاحتلال الإسرائيلي هجومًا عسكريًّا واسع النطاق على منشآت عسكرية ونووية في عمق الأراضي الإيرانية، في خطوة استباقية قالت: إنها تهدف إلى منع طهران من بلوغ "العتبة النووية".
وردّت إيران بهجمات صاروخية وجوية مكثفة طالت مواقع استراتيجية في عمق الكيان الصهيوني في الأراضي الفلسطينية المحتلة، ومع اتسّاع نطاق العمليات، وتفاقم الأضرار التي تعرض لها الكيان، وجدت إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب نفسها مضطرة إلى الخروج من سياسة "الردع المحسوب" لتدخل حربًا محددة ومباشرة ضد المنشآت النووية الإيرانية في فوردو ونطنز وأصفهان، وخرج ترامب متحدثًا عن نجاحات كبيرة في تدمير قدرات إيران النووية، قبل أن تقوم إيران بردٍ –متفق عليه- على قاعدة العديد الأميركية في قطر، ليخرج ترامب ثانية معلنًا انتهاء المواجهات، ووقف العمليات العسكرية بين إيران والكيان الصهيوني، ومُشيدًا باستجابة إيران وقبولها بتهدئة الأوضاع.
هذه التحولات السريعة، شكلت مرحلة مفصلية ليس فقط في تاريخ العلاقات بين الولايات المتحدة وإيران، ولكنها يمكن أن تترك تداعياتها على مستقبل منطقة الشرق الأوسط، وهنا يبرز السؤال المحوري في هذا المقال: إلى أين تتجه مسارات العلاقات الإيرانية الأميركية بعد هذه الحرب؟
أولًا: السياقات الاستراتيجية للمواجهة الأميركية الإيرانية:
لا يمكن فهم أزمة يونيو 2025 بين الطرفين دون العودة إلى المسار الطويل من التوتر منذ نجاح الثورة الإسلامية في إيران عام 1979، حيث كانت العلاقة محكومة بمنطق "العداء الاستراتيجي" لا التنافس المؤسسي، وأعاد انسحاب ترامب من الاتفاق النووي مع إيران عام 2018 العلاقة بين الطرفين إلى مربع المواجهة المفتوحة، وخاصةً مع تشديد العقوبات الاقتصادية على إيران.
وبينما اعتمدت واشنطن استراتيجية "الضغط الأقصى" لعزل إيران اقتصاديًّا، ردّت طهران بتكثيف أنشطتها الإقليمية، وتسريع برنامجها النووي، ما أدى إلى تفاقم التهديدات المتبادلة، وفشل المقاربات الدبلوماسية، وانعدام الثقة بين الأطراف.
ثانيًا: التحولات الجوهرية في قواعد الاشتباك:
جاءت الهجمات الأميركية على إيران في 22 يونيو/ حزيران 2025، محملة بالعديد من التحولات التي يمكن وصفها بالاستراتيجية، أولها: كسر سياسة الضبط الأميركي في إطار قواعد محددة للاشتباك، حيث كانت واشنطن تتجنب الانخراط المباشر مع إيران، وتُفَضِّل الحروب بالوكالة، وجاء تدخلها في يونيو 2025 ليشكل تحوُّلًا كبيرًا، يُعبِّر عن إدراك متزايد بأن طهران باتت تشكل تهديدًا مباشرًا لمصالحها العسكرية والاقتصادية.
وثانيها: انهيار ما تبقى من "الردع المتبادل غير المعلن" حيث كانت هناك قواعد غير مكتوبة تمنع الوصول إلى مواجهة مفتوحة، مثل تجنب استهداف البنية النووية مباشرة، أو الامتناع عن قصف العمق الإيراني، ومع هجمات 22 يونيو أصبحت مؤشرات انفتاح الصراع على سيناريوهات غير تقليدية واردة وبقوة خلال المراحل القادمة.
وثالثها: تآكل الأطر الدبلوماسية القائمة، حيث بدأت المواجهات مع العدوان الصهيوني على الأراضي الإيرانية، في ظل غياب قنوات اتصال نشطة بين إيران من ناحية والولايات المتحدة من ناحية ثانية، لولا عودة ترامب إلى فتح وتنشيط هذه العلاقات عبر الدور القطري النشط للتواصل مع إيران، وغياب هذه القنوات يزيد من تعقيد مساعي التسوية السياسية.
ثالثًا: السيناريوهات المستقبلية:
في إطار هذه السياقات وتلك التحولات يمكن رصد عدد من السيناريوهات المستقبلية للعلاقات الإيرانية الأميركية، وذلك على النحو التالي:
السيناريو الأول: التصعيد المتدرج نحو مواجهة شاملة:
ويقوم هذا السيناريو على احتمالات اتساع نطاق الاشتباك لتشمل كامل الإقليم، وتتحول المواجهة المحدودة إلى حرب مفتوحة تتورط فيها أطراف متعددة؛ في ظل توجهات إدارة ترامب العدائية ضد إيران مدفوعًا بضغوط إسرائيلية ومحفزات من بعض الأطراف الإقليمية. وهنا قد تختار إيران الرد بأساليب هجينة تشمل استهداف القوات الأميركية في العراق وسوريا والخليج، واستخدام أذرعها المسلحة (الحوثيين، حزب الله، الميليشيات الشيعية)، وتعطيل الملاحة في مضيق هرمز لضرب الاقتصاد العالمي.
وهو ما يمكن أن يترتب عليه استنزاف الولايات المتحدة عسكريًّا وسياسيًّا، ارتفاع حاد في أسعار الطاقة، وتعطل سلاسل الإمداد، وانكشاف جبهة الحلفاء الخليجيين الذين سيجدون أنفسهم في مرمى الاستهداف الإيراني والمساومة والابتزاز الأميركي.
السيناريو الثاني: الاحتواء المتبادل:
يفترض هذا السيناريو أن تنجح واشنطن في ضرب القدرة النووية الإيرانية، وإعادة إيران إلى مرحلة ما قبل القدرة التخصيبية العالية، دون الانجرار إلى حرب شاملة، وبدلاً من الانخراط في مفاوضات مباشرة، تعتمد إدارة ترامب على مزيج من العقوبات الاقتصادية والضغوط الإقليمية والردع البحري.
وهو ما يمكن أن يترتب عليه إبقاء إيران في حالة إنهاك استراتيجي طويل الأمد، وتصاعد الخطاب الأميركي عن تغيير النظام في طهران، وبالتالي استمرار التوتر في الشرق الأوسط دون تسوية حقيقية.
السيناريو الثالث: العودة إلى التفاوض وفق شروط جديدة:
رغم نسبة احتمالاته المحدودة يبقى هذا السيناريو واردًا على المدى القريب والمتوسط إذا ما توفرت شروط محددة، مثل: تغيُّر في القيادة السياسية داخل إيران أو الولايات المتحدة، مع وجود ضغط دولي لإعادة بناء الاتفاق النووي، ووجود إدراك متبادل بأن التصعيد غير قابل للاستدامة، أو التفكير بمنطق الصفقات كنمط مهيمن على إدارة ترامب.
وهذا ما يمكن أن يترتب عليه العودة إلى مفاوضات أكثر شمولًا تشمل البرنامج النووي، والنفوذ الإقليمي الإيراني، وبرامج تطوير الصواريخ الباليستية الإيرانية، مع تخفيف تدريجي للعقوبات المفروضة مقابل قيود على النشاط النووي، وإعادة تشكيل التوازن الإقليمي بالتوافق بين إيران والولايات المتحدة وفق شروط وضوابط لا تتجاهل المعضلة الأمنية في منطقة الخليج بين إيران من ناحية والسعودية من ناحية ثانية، وكذلك المعضلة الأمنية بين إيران والكيان الصهيوني.
رابعًا: العوامل الحاكمة لهذه المسارات:
إن ترجيح أحد السيناريوهات السابقة، لن يتحدد فقط بنتائج المواجهات العسكيرة بين الأطراف المعنية، لكن أيضًا بعدد من العوامل الهيكلية، من بينها:
1- التوازنات الداخلية في إيران: فإذا أدى التصعيد إلى زيادة قبضة الحرس الثوري، فإن ذلك من شأنه أن يُعزز منطق الصدام، أما إذا حدثت احتجاجات داخلية واسعة، فقد تضطر القيادة الإيرانية إلى مراجعة سياساتها الخارجية.
2- موقف الحلفاء في الخليج وأوروبا: فسياسات السعودية والإمارات وقطر يُمكن أن تكون حاسمة في تحديد هامش المناورة الأميركي، كما أن الموقف الأوروبي قد يلعب دورًا في إعادة التوازن، في ظل ما تشهده دول الاتحاد الأوروبي من محاولات لإعادة التموضع في مرحلة ما بعد الحرب الروسية الأوكرانية.
3- المتغيرات الجيوسياسية الدولية، وخاصة موقف الصين وروسيا من تطورات المواجهة الأميركية الإيرانية، وحدود الدعم الذي يمكن تقديمه لإيران من الدولتين؛ وخاصة في ظل تنامي الحديث عن تعزيز الشراكة الرباعية بين إيران وروسيا والصين وكوريا الشمالية في مواجهة التغول الأميركي تحت إدارة ترامب.
4- انعكاسات حرب يونيو 2025 على الاستراتيجية الأميركية: حيث أظهرت هذه الحرب أن إدارة ترامب تُعيد النظر في أدواتها التقليدية في الشرق الأوسط، حيث فشلت سياسات الردع عبر العقوبات وقواعد الاشتباك في منع التصعيد، واتجهت لاستخدام القوة العسكرية مجددًا، وهو ما يثير إشكاليات قدرة الولايات المتحدة على الانخراط طويل الأمد في مواجهة جديدة بعد انسحابها من أفغانستان، وتخفيض التزاماتها في العراق، ومدى تماسك تحالفاتها الإقليمية، في ظل تردد بعض الحلفاء وازدياد تعقيدات المشهد، ومدى قدرتها على التوفيق بين التصعيد ضد إيران، والمواجهة الجيوسياسية مع الصين وروسيا.
وفي إطار هذه الاعتبارات يمكن القول: إن كل السيناريوهات المحتملة، تبقى قائمة، وإن أسوأ السيناريوهات التي لا يتوقعها من يُفكرون منطقيًّا يمكن أن تحدث في ظل وجود ترامب على رأس السلطة في الولايات المتحدة، كونه لا يفكر بالمنطق ولا يتعامل وفق قواعد مؤسسية، بل بعشوائية تصل إلى درجة الفوضوية في ظل هيمنة الشعبوية على توجهاته وسياساته.
وإذا كان الطرفان – الأميركي والإيراني – يعلمان أن المواجهة المفتوحة مكلفة وغير قابلة للاستمرار، لكنهما في الوقت ذاته غير مستعدَّين لتقديم تنازلات جوهرية دون ضغوط أو تحولات داخلية؛ لذلك يمكن القول: إنَّ المرحلة المقبلة قد تشهد مزيجًا من التصعيد التكتيكي والتهدئة المرحلية، في ظل غياب تسوية استراتيجية شاملة، والتأكيد على المنطقة مُقبل على صدام أكثر عنفًا بين مشروعين متناقضين، إلا إنَّهُ في إطار هذا التناقض، وبالمنطق الترامبيِّ، قد تنشأ فرص لبناء توافقات استراتيجية جديدة تضبط هذا الصدام.