
التاريخ : الجمعة 04 يوليو 2025 . القسم : رسالة التربية
في ذكرى عاشوراء «أنا أولى بموسى منهم»
في يوم عاشوراء تتجدد الذكرى، ذكرى نجاة موسى عليه السلام وقومه من ظلم فرعون وطغيانه، ذلك الحدث الجليل الذي رواه النبي صلى الله عليه وسلم وأكَّد مكانته. عن ابن عباس رضي الله عنه: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لمَّا قدم المدينة، وجدهم يصومون يومًا، يعني عاشوراء، فقالوا: هذا يوم عظيم، وهو يوم نجَّى الله فيه موسى، وأغرق آل فرعون، فصامه موسى شكرًا لله، فقال: "أنا أولى بموسى منهم، فصامه، وأمر بصيامه". (رواه البخاري).
وقد أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بمخالفة اليهود والنصارى في الصيام وفي كل شيء، كما ورد في السنة عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، أنه قال حين صام رسول الله يوم عاشوراء وأمر بصيامه: قالوا يا رسول الله، إنه يوم تعظّمه اليهود والنصارى. فقال رسول الله: "فإذا كان العام المقبل -إن شاء الله- صمنا اليوم التاسع". قال: فلم يأتِ العام المقبل حتى تُوفِّي رسول الله. وقد استدل العلماء بهذا الحديث في صيام تاسوعاء لمخالفة اليهود، فهو من الهدي النبوي وإن لم يفعله؛ فقد أشار إليه وأصبح سنة متبعة.
ولما فُرض رمضان في السنة الثانية، نُسخ وجوب صوم عاشوراء، وصار مستحبًا، فلم يقع الأمر بصيامه إلا سنة واحدة، والدليل على ذلك من السنة النبوية كما ورد عن عائشة رضي الله عنها، قالت: "كانوا يصومون عاشوراء قبل أن يُفرض رمضان، وكان يومًا تُستَر فيه الكعبة، فلمَّا فرض الله رمضان، قال رسول الله: من شاء أن يصومه فليصمه، ومن شاء أن يتركه فليتركه". (رواه البخاري).
وصوم يوم عاشوراء يكفّر السنة التي قبله، فعن أبي قتادة رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: "صيام يوم عاشوراء، أحتسب على الله أن يُكفّر السنة التي قبله" (رواه مسلم).
قال أهل العلم: ومراتب صيام عاشوراء ثلاثة:
1. أكملها أن يُصام قبله يوم وبعده يوم.
2. ويليه أن يُصام التاسع والعاشر.
3. وأقل ما تحصل به السنة صيام العاشر وحده.
بين عاشوراء وطوفان الأقصى:
هناك بعض المعاني المشتركة التي تربط بين (عاشوراء) و(طوفان الأقصى)، منها:
● الصراع بين الإيمان والكفر: كما كان فرعون رمزًا للكفر والاستكبار، فإن الاحتلال، وخاصة الاحتلال الصهيوني، يمثّل قمة الطغيان الحديث. والمقاومة اليوم هي استمرار لخط الأنبياء في مواجهة الباطل مهما عظُم.
● اليقين بنصر الله: قال موسى: ﴿كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾. وكذلك فعل المجاهدون في كل مكان، ونرى ذلك في غزة، حيث استندوا إلى وعد الله، رغم ضعف العتاد وشدة الحصار.
● التحرر من العبودية والاستبداد: عاشوراء هو يوم الخروج من استبداد وعبودية فرعون إلى الحرية وعبادة الله. وطوفان الأقصى، بما صاحبه من جهاد وتضحية وثبات، يُمثل بداية الخروج من عبودية الاحتلال إلى كرامة العبودية لله والتحرير.
● المعجزة تصنعها العقيدة: البحر انشق بعصا موسى، وصواريخ المقاومة وصلت إلى عمق العدو، وكلاهما فعلٌ يتجاوز المألوف إن صح الإيمان وتحققت الإرادة.
● درس للأمة: كما قال النبي ﷺ: "أنا أولى بموسى منكم"، فإن أمة الإسلام اليوم أحق بفهم رسائل عاشوراء، والعمل بها في واقعها السياسي والميداني، عبر دعم قضايا المقاومة والجهاد والوحدة.
دروس وعبر من يوم عاشوراء:
1. إنه يوم يحمل معاني الانتصار بعد الاستضعاف، والثبات في وجه الطغيان، والثقة بوعد الله، وهو ما يجعل من عاشوراء مدرسة إيمانية وجهادية في آنٍ واحد.
2. الطغيان إلى زوال مهما طال الزمن، وقد وعد الله بذلك.
3. الجهاد قدر الأمة وسر عزتها، كما كان موسى عليه السلام في صفوف المؤمنين صامدًا.
4. النصر سنّة ربانية تتحقق بالصبر، والثبات، والإيمان، وببذل الطاقة في الأخذ بالأسباب، لا بالعدد والعتاد ﴿وكان حقًا علينا نصر المؤمنين﴾.
5. عاشوراء يوم لصناعة الوعي، فالتاريخ يعيد نفسه في صور جديدة ﴿وذكّرهم بأيام الله﴾.
6. شكر النعمة بالعبادات: الفرائض والنوافل، ومنها الصيام.
7. الاقتداء بالأنبياء.
وحدة الرسالات: "أنا أولى بموسى منهم"
قوله صلى الله عليه وسلم: "أنا أولى بموسى منهم" يجسد وحدة الأنبياء في الأصل والدعوة، فهم كلهم جاءوا بالتوحيد، وبالعدل، وبعبادة الله وحده. فالأنبياء إخوة، وإن اختلفت شرائعهم، ودينهم واحد. وقد بيّن القرآن الكريم هذا المعنى في قوله تعالى: ﴿إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَٰذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا ۗ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: 68].
فيوم عاشوراء يدل على أن الأنبياء بعضهم أولى ببعض، كما في رواية: "أنا أولى بموسى منهم". وهذه الولاية لاتحادهم في الدين والرسالة.
حقيقة الاتباع وميزان القرآن:
الاتباع في دين الله ليس كلمات ولا ادعاءات، بل صدق واتباع للنبي الخاتم، الذي هو خاتم الرسالات. وقد قال الله عن إبراهيم عليه السلام: ﴿مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَٰكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [آل عمران: 67].
وهذا يعني أن من سار على درب إبراهيم هم الموحدون، أتباع الإسلام، لا من زعموا الانتساب له كذبًا وزورًا وهم يخالفون سنته.
القرآن مهيمن ومصدّق لما بين يديه:
لقد أنزل الله القرآن الكريم مهيمنًا على الكتب السابقة، فهو يصدّق ما فيها من الحق، ويكشف ما لحقها من التحريف، قال تعالى: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ﴾ [المائدة: 48]. وهذا ما يجعل القرآن هو الأصل الثابت، المحفوظ بحفظ الله، لا يتبدل ولا يتحرّف.
التحريف في الديانات السابقة:
لقد تعرضت التوراة والإنجيل للتحريف عبر الأزمان، كما أخبرنا الله بذلك، فقال: ﴿فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَٰذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ۖ فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ﴾ [البقرة: 79]. فما بقي إلا القرآن الكريم محفوظًا، وما بقي إلا الإسلام طريقًا مستقيمًا.
الفتوحات الإسلامية: عدل ورحمة
وعلى عكس ما يُروّج، لم تكن الفتوحات الإسلامية غزوًا استعماريًا، بل كانت فتحًا للقلوب، ونشرًا للعدل، وحماية للضعفاء، وقد دخل الناس في الإسلام عن قناعة ويقين. أما الحروب الاستعمارية الحديثة، فهي نهب واستعباد وقتل وتدمير، ومقارنة الإسلام بها ظلم فادح.
خطر "الديانة الإبراهيمية" المزعومة:
واليوم، يعود الخطر بثوب جديد تحت شعار "الديانة الإبراهيمية"، تلك الدعوة الزائفة التي تدعو لدمج الإسلام مع اليهودية والنصرانية في دين واحد، بزعم التسامح والسلام، وهي في الحقيقة خطوة لطمس الإسلام، وتمكين الصهيونية، وفرض الهيمنة اليهودية على العالم. إنها ليست دعوة للوحدة، بل خدعة لتصفية العقائد وتهويد المقدسات.
واجبنا أمام هذا الغزو الفكري:
في مواجهة هذا التزييف والتحريف، علينا أن:
1. نرسّخ هويتنا الإسلامية في عقول أبنائنا.
2. نوضح حقيقة الإسلام وأنه رحمة للعالمين.
3. نرفض الدعوات إلى "الإبراهيمية" الجديدة التي يروّج لها الغرب، ونتصدى لها بالعلم والوعي.
4. ندعم القضية الفلسطينية، ونربط عاشوراء بمعاني النصر والتحرر من الطغاة.
5. نعمل على وحدة الأمة، وتكاتف جهود العاملين لدين الله عز وجل.
خاتمة:
في يوم عاشوراء، نتذكر انتصار الحق على الباطل، ونجدد الولاء للأنبياء، ونقف خلف نبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم، الذي هو أولى بموسى، وبكل نبي، وبكل مؤمن. فالتمسك بالإسلام اليوم، هو النجاة في الدنيا والآخرة. ﴿وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [آل عمران: 85].
الدكتور صلاح عبد الحق
القائم بأعمال فضيلة المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين
الجمعة 9 محرم 1447هـ؛ الموافق 4 يوليو 2025م