
التاريخ : الجمعة 04 يوليو 2025 . القسم : الفكر والدعوة
عاشوراء بين بشرى المستضعفين ومصارع الظالمين
لا تزال عطايا مواسم الخير تتوالى، فبعد رمضان وليلة القدر؛ يأتي موسم الحج، ومشهد عرفات، تتلوه ذكرى الهجرة وإقامة دولة الإسلام، تعقبها ذكرى عاشوراء، وما أدراك ما هي!؟
هي الجامع بين بشريات المظلومين بنصر الله، ومصارع الظالمين في زينتهم، هي درس في طبائع الاستبداد، وجنايتها على إنسانية الإنسان، حيث تفقده أخص ما حباه الله به: كرامته وحريته (ولقد كرمنا بني آدم) سورة الإسراء: 70، ودرس يذكِّر بهوية هذه الأمة المسلمة، ورسالتها الخالدة.
كانت نهاية فرعون تاريخية بكل معنى الكلمة، كان يمكن أن يموت حتف أنفه، بين أهله، أو يقتل في جولة من صراعات القصور، أو في إحدى معارك الساسة ولا يكاد يخلو عصر من هذه أو ذاك.. لكن الله تعالى اختار أن يلقى مصرعه وهو يلجّ في باطله، ويغوص في طغيانه حتى الرمق الأخير، وهو يرى أية الله الكبرى حيث[ ينشق البحر أمامه، ويسير موسى ومن معه أمام ناظريه، فلا يرعوي، ولا يزدجر، وقد طبع الله على قلبه، فأصر أن يتعقب المظلومين الذين فروا من مظالمه، ويستكبر أن ينطق شهادة الحق في سرعة تليق بالموت الهاجم، فيلتوي بها أيما التواء، ويقول : (أمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل)، فما تنفعه الكلمات المتحشرجة في حلقه، المتثاقلة على لسانه (آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) سورة يونس:90-91، ويلفظه البحر ليكون آية، (فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية) وهيهات أن تنفع الآيات والنذر القراعين غلاظ الأكباد، فقد خلفه فرعون جديد، يواصل استعباد شعب رضي المذلة والهون، فأناخ بكلكله لينهض الطغاة من فوقه، (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ) سورة الزخرف: 54، ويقود جندًا على شاكلته جهلاً وغفلة، لم يوقظ مصرع فرعونهم أمام أعينهم ضميرًا، ولم يحرك لهم عقلاً..
جيل المذلة لا تنهضه المعجزة، بل التربية:
وعجبًا لمعجزة قاهرة لم تجدِ نفسًا ظالمةً ولا مظلومةً (وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لَّا يُؤْمِنُونَ) سورة يونس:101، فإذا كانت الآيات لم تغن فرعون وجنده، فإنها لم تعظ الناجين من الغرق، ويصور الفرآن العظيم حالهم في قوله تعالى: (وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَىٰ قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَىٰ أَصْنَامٍ لَّهُمْ ۚ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَٰهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ ۚ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) سورة الأعراف: 138 ، وما لبث موسى أن ذهب لميقات ربه، فعبدوا العجل في غيبته، وكادوا يقتلون أخاه هارون إن حال بينهم وبين معبودهم الجديد!
ذلك حال أمة ترعرعت تحت حكم الجبارين! فأنكروا أجواء الحرية، واستطالوا أيامًا قلائل من الكرامة! لم ينفعهم تنزل التوراة (فيها هدى ونور)، ولم تنهض بهم جهود رسولين كريمين معًا: موسى وهارون. ولم يحرك مشاعرهم وعد الله أن يدخلوا الأرض المقدسة، ولا أمره لهم بالجهاد، وقالوا لنبيهم: (اذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُون)، فلما استيأس منهم (قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي ۖ فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ. قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ ۛ أَرْبَعِينَ سَنَةً ۛ يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ ۚ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ) سورة المائدة:25-26 . فلم تنفعهم المعجزة الباهرة، بل نفعتهم التربية المتطاولة، أربعين سنة، حتى يهلك فيها جيل الخور والمذلة، لينشأ جيل جديد يستأهل النصر.
فتحققت أرادة الله لهم بعد أربعة عقود، تلك الإرادة التي أعلنها في مفتتح قصة موسى وفرعون في سورة القصص، ﴿ وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ. وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ﴾ القصص 5-6، وإنما عجل ذكر نهاية القصة قبل بدئها ليعجل البشرى للمؤمنين في كل موضع، حتى يطمئن حملة الرسالة ودعاة الحق إلى نتيجة جهادهم قبل البدء فيه. ولا عجب أن سورة القصص مكية، تنزلت لتقرر العقائد التي لا تتحول.
غربة المصلحين في أقوامهم:
ومن ابتلاء المصلحين أن يُبعثوا برسالاتهم بين أقوام لا يؤمنون، وإن آمن بعضهم لا يسعون بحقائق الإيمان، فتكون غربة يلقاها موسى عليه السلام بين قومه حين يقولون: (أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا، قَالَ عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (سورة الأعراف: 129، وحين ادلهم الخطب وتبعه فرعون وجنوده؛ لم يجد منهم عدة للدفع، ولا جلَدًا للصبر، ولا يقينًا بالحق، بل طارت قلوبهم شعاعًا وهم يهتفون: (إنا لمدركون)، فكان رده: (كلا إن معي ربي سيهدين) فكان حديثه بضمير المتكلم المفرد المتفرد (معي ربي)، فأين ذلك من قول النبي صلوات الله عليه لأبي بكر (إن الله معنا)؟. وطال الأمر بموسى بعد خذلان بني إسرائيل، فقال: (رب لا أملك إلا نفسي وأخي)!
نبينا أولى بموسى، ونحن معه:
ولما كانت الهجرة وجد النبي صلوات الله عليه اليهود يصومون يوم عاشوراء، وكانت العرب وقريش يجلون ذلك اليوم، يتوارثون تعظيمه؛ ربما دون معرفة سببه، فسأل النبي صلوات الله عليه عن سبب صومهم فقالوا: "هذا يومٌ صالح؛ هذا يومٌ نجَّى اللهُ بني إسرائيل من عدوهم، فصامَه موسى، قال النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ : فأنا أحق بموسى منكم، وأحقُّ بصيامِهِ، فصامَهُ، وأمر بصيامِهِ"، متفق عليه.
"أنا أحق بموسى منكم"، قولة حق تترجم عن حقيقة كبرى؛ أن أمة النبي صلوات الله عليه قد حازت مواريث الأنبياء، وغدت مؤتمنة عليها، كما قال تعالى: (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ (سورة المائدة: 48، وهي أحقية تنبئ بالامتداد التاريخي لأمة الإسلام التي حملت بصدق أصل الدين، وعقيدته التي لم تتغير منذ آدم ونوح ومن تلاهم (شرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ ۖ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ۚ) الشورى:13
كانت عاشوراء بوابة للهجرة:
كانت عاشوراء نجاحًا لهجرة بني إسرائيل من أرض الاستضعاف، فلم يفقهوا واجب الهجرة وتكاليفها، وتقاعسوا عن فريضة الجهاد لإقامة الدين والدولة، وذلك أن الهجرة ليست فرارًا ليأمن الناس، ثم يقعدوا، بل هي مرحلة في طريق ممتد ليكون الدين كله لله، ولتتحقق مهمة الاستخلاف التي خلق الله الناس لها، وتلك آيات الله تكرر تلك الحقيقة في جلاء: َ(وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ )الأنفال: 75، و(الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ) التوبة: 20 (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) النحل: 110
وستبقى عاشوراء منارة بشرى للمستضعفين؛ أن نصر الله قريب، وتذكرة للطغاة؛ أن أخذه أليم شديد، وأن موعوده لعباده المجاهدين لا خُلف له (إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشهاد يَوْمَ لَا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ ۖ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّار) سورة غافر: 51-52.. فاللهم كن لإخواننا في فلسطين، وفي كل أرض تنتفض ضد طغاتها.