التاريخ : الاثنين 07 يوليو 2025 . القسم : فنون وآداب

هاجر.. من أدب السجون وفاءٌ في قلب الابتلاء وشهادةٌ على عصر


نفتح في هذا المقال نافذةً على أحد أعمق تجليات أدب السجون؛ بسردية ألمٍ مكتوم، تتقاطع فيها السياسة مع المشاعر والوجدان، وتختلط أحلام الإنسان بآمال الأوطان في الحرية.

سردية إنسانيةٌ حقٌّ لها أن تُروى، ليس لأنها زفرات إنسانةٍ تفتقد رفيق دربها فحسب، بل لأنها شهادةٌ تُجسّد ملامح حقبةٍ من تاريخ مصر بدأت بالانقلاب العسكري في 2013 ولم تنتهِ بعد.

هذه الحكاية، التي خطّتها زوجة أحد المعتقلين المصريين، واحدةٌ من آلاف الحكايات التي تُجسّد صبر المرأة  المصرية المؤمنة في وجه القهر والحرمان، ووفاءها  لرفيق  رحلة التضحية والثبات.

اخترنا أن ننشر هذه الشهادة الحيّة كما وردت، لما فيها من معانٍ إنسانية وأخلاقية تجسّد واقع الإيذاء والتنكيل والتدوير بحق المعتقلين السياسيين، ولِما تحمله كذلك من  روعة الحبّ النقيّ والإيمان العميق وسط الظلم واليأس من العدالة.

وإذ نقدّم هذه الحكاية، فإننا نؤكد أن أدب السجون ليس مجرّد وصفٍ للعتمة، بل هو إشعالٌ لنور الحقيقة، وتوثيقٌ لبطولة من لا صوت لهم. إنهم نعم خاررج القضبان ، لكنهم محبوسون كذلك، مرهونون مع  من بداخلها.

هذه الحكاية واحدة من مئات، بل آلاف الحكايات، التي عاشتها زوجات المعتقلين والمطاردين والمنفيين، لكنها جاءت بلسانٍ صادقٍ وبنبضٍ نابض، فكانت أبلغ من الخُطب وأقوى من المرافعات.

إننا حين ننشرها، لا نوثّق معاناة فرد، بل نسجّل ملامح مرحلةٍ كاملةٍ من الظلم المُمنهج، والاستهداف المقصود لرجالٍ صدقوا ما عاهدوا الله عليه، ونساءٍ حملن  الأمانة بصبر  وثبات.

كتبت هاجر:

حكايتنا بكل اختصار    
"وما خفي كان أعظم، والله ":

"خمسة وهيرجعلك" !

قالها لي ضابط بعد 60 يومًا من زواجنا، يوم 2 أبريل 2017، حين جاء يأخذ أحمدي، يوم 2 أبريل 2017، ، وهو يحاول إقناعه بالمشي معهم، وأحمدي يربّت عليَّ وكأنه يعلم أن "الخمسة" التي قالها الضابط، لن تكون 5  دقائق، ولا 5 أيام، ولا حتى 5 سنين حتى! لقد صارت  تسعة!.

قال لي مرة: إنه انهار من البكاء حين رأى صورة بطاقتي تدخل إليه في الزيارة! لم يكن يتوقع أنني سأتمكن من الوصول إليه بسهولة، وأنا في نظره "البنوتة"، عروسته ابنة العشرين، الحامل في توأمها، والتي كانت تعتمد عليه بشكل كامل!

قال لي: "كنت شايل همك جدًا! إزاي هتيجي القسم وتتعاملي مع مخبرين، وزيارات، وطوابير، وتشيلي، وتشيلي، وتشيلي... أنا تزوجتك علشان أكرمك، مش علشان أتعبك!"

والآن، بعد قرابة تسع سنوات في السجون ومقار الاحتجاز، وبعد أن زرت أحمدي في:
(كفر صقر، الزقازيق، منيا القمح، منيا القمح مرة ثانية، العاشر، العاشر مرة ثانية، العاشر مرة أخرى، مرة أخرى العاشر، وادي النطرون، ملحق وادي النطرون، جمصة، برج العرب، الزقازيق العمومي).
ولم أتمكن من زيارته في:        
(قوات أمن الزقازيق، قوات أمن الزقازيق مرة أخرى، سجن الزقازيق العمومي، قسم أول الزقازيق، حجز كفر صقر، حجز كفر صقر مرة ثانية، ومرة ثالثة، ومعلش كمان مرة كفر صقر، كفر صقر كمان مرة، حجز منيا القمح، تخشيبة الخليفة، ترحيلات 15 مايو، حجز قسم السادات، حجز مديرية أمن الإسكندرية، ترحيلات الزقازيق).

هل يمكن لأحد أن يستوعب أن أحمدي تم ترحيله أكثر من 100 مرة خلال 9 سنوات؟! وعُرض على وكلاء نيابة وقضاة أكثر من 120 مرة.. يالله! 

كل هذا تجديدات وتمديد فترات السجن، وزيارات، وكلبشات، وزنازين... قال لي إنه دخل حتى الآن 18 زنزانة، من برج العرب لجمصة، ومن وادي النطرون لكفر صقر!

فاجأني مرة حين وجدته يعد زياراتي له! قال لي في 2021 إنني زرته 200 مرة، وأعددت طعامًا لأكثر من 1500 معتقل، من أسوان إلى القاهرة، ومن السلوم إلى سيناء!

خلال 9 سنوات، لفّقوا لأحمدي 9 قضايا، قضى منها 3 سنوات حصل فيها على البراءة بعد انتهائها! ثم دُوّر بعدها 8 مرات، وبين كل قضية والتي تليها، "يختفي" حوالي 30 يومًا!

دخل على مدير نيابة كفر صقر مرة في 2021، ففوجئ به يقول: "ياااه! أنت لسه مروحتش! اقعد، اقعد لما نكتب المحضر."

دخل على قاضٍ في الجنايات، وحكى له مأساته، فأومأ القاضي برأسه وقال: "ربنا يفكها علينا وعليكم."

مرة، انفعل على قاضٍ آخر أراد أن يمنحه إخلاء سبيل، وأحمدي لم يُرد! لقد تعب من الترحيلات وتلفيق القضايا وصوت الكلبشات. كان كل طموحه أن يستقر في سجن حتى يفرّجها الله! فحدثت مشادات، لدرجة أن القاضي غيّر رأيه وجدد لهم!

قال لي عن غزة:        
"يا لسعادتهم! يُقصفون فيموتون! ونحن لا نُقصف ولا نموت! يصرخون فيسمعهم الناس! ونحن لا نصرخ، ولا يذكرنا أحد! يمضون إلى الله شهداء بررة! ونحن هنا... منّا من جزع، ومن أصابه الجنون، ومن يقاوم لا يأمن الفتنة على نفسه! فيا لهناء من يُقتل شهيدًا ولا يُفتن في السجون!"

 

ذات مرة قررت أن أبحث عنه...

ذهبتُ إلى القسم: قالوا لي "أحمدي راح وساب لك الحاجات دي".
ذهبتُ إلى النيابة: قال وكيل النيابة "مقدرش أمضي على المحضر دا".
ذهبتُ إلى المحامي العام: رد سكرتيره "لو سياسي، انسِه... أسهل!".
طرقت باب فرع أمن الدولة: قالوا "مش هنا!"

﴿قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ﴾ [النمل: 49]

نعيش، أنا وأحمدي، حالة من الفقد العام، بدأت بفقد توأمنا ووالد أحمدي، ويُسيطر عليه الخوف أن يفقد والدته وهو في السجن، وقد شارفت على الثمانين!

وعزاؤنا أننا نقاوم، وليس في أيدينا سوى أيدينا. والعجيب أننا نقاوم لنحيا، لا لنثبت شيئًا ولا لننفي آخر...

في سجنه، حفظ أحمدي القرآن، وأُجيز بسندٍ متصل إلى النبي ﷺ، ثم أُجيز في التجويد ومتونه، وحفظ الأربعين النووية، وبدأ تعليم الناس.

(100) هو عدد من استفادوا من دروسه في التجويد، والقرآن، وتربية الأبناء، وإعداد المعلمين، وتأسيس مشروعات رقمية للقرآن الكريم. والحمد لله أنني كنت من هؤلاء المئة.

ابتكر طريقةً جديدةً لتدريس التجويد، واختبرها، ثم ساعدني في تأسيس Alhalqa -  الحلقة، فعلّمني كعادته، وأنا الآن بفضله بعد ربي، معلمة قرآن للناطقين بالإنجليزية، وأقدّم ورشًا من إعداده في سجنه، منها:

 

في كل مرة يُلفقون له قضية جديدة، يُفاجئني بكورس جديد، أو فكرة مبتكرة، أو مشروع رقمي جديد!
هم يُلفقون القضايا، وهو يخطط للماجستير أو تخصص جديد!     
يبحث عن الأمل كما يتحسّس إبرة سقطت منه في ظلمات المحيط!

﴿وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ* فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ [النمل: 50: 51]

ومع ذلك... تعبنا!       
تعبنا حقًّا من السجن!    
نفتقد كلّ حياة، ونتحسّس من كل ما يُذكّر بالقيد!  
أحمدي وأنا حالة فقدٍ مستمرة... لا تنتهي! 
يكفيني أنني أفتقده، ويكفيه أنه يفتقدني!

نفتقد بيتًا يجمعنا...      
وأيدًا تتشابك في الطريق...      
وأبناءً نهدهدهم ويُزعجوننا...    
وأثرًا نتركه في دنيا الناس...

وحسبي أنه يفتقدني وأفتقده، ويكفيني أن الله يعلم، وما كان الله ليُضيع إيماننا...     
هو حسبنا، إنّا إليه راغبون.