الموقع الرسمي للإخوان المسلمون

رسالة الأسبوع

رسالة أسبوعية تصدر عن جماعة الإخوان المسلمين

 إنها حضارة تتراجع لافتقادها قيم العدل والإنصاف

إنها حضارة تتراجع لافتقادها قيم العدل والإنصاف

بسم الله، والصلاة والسلام على رسول الله- صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.

.
وبعد: فيمر هذه الأيام عامان على أحداث 11 سبتمبر التي هزت الدنيا، وأطلقت الغضب الأمريكي على عالمنا العربي والإسلامي، الذي اتخذ شكل حرب دموية وإعلامية وصفها الرئيس الأمريكي في وقتها بأنها "حرب صليبية جديدة"، فذكَّرنا بتاريخ مرير ظن كثير من الناس أن البشرية قد تجاوزته، لكنها سنة الله التي لا تتخلف في الصراع، كما قال تعالى: ﴿وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا﴾ (البقرة من الآية217)، وحكمة التاريخ التي لا تكذب في أننا أمة مستهدفة من أعدائها، في رباط إلى يوم القيامة، وأن المحنة التي تمر بها هذه الأمة ستمضي- إن شاء الله- وتنتهي وهي مازالت باقية إلى ما شاء الله؛ لتكون بعد حين ذكرى للدرس والعبرة تُضاف إلى ذكريات حروب صليبية مضت واستمرت زهاء مائتي عام، وذكريات مآسٍ عاشها المسلمون قديمًا في الأندلس، حين أُجبروا على تغيير دينهم أو الموت، وعُقدت لهم محاكم التفتيش، وقُوضت أركان حضارتهم ووجودهم الذي استمر ثمانية قرون من الزمان، وذكرى الهجوم الغربي المتتالي على رحى الإسلام في دولة الخلافة العثمانية، ذكريات أكثر دموية وصلفًا ما تزال في أذهاننا من الاستعمار الغربي لبلادنا الذي عطل مسيرتها الحضارية، وردها إلى الوراء قهرًا وتخلفًا واستنزافًا لثرواتها وعقول أبنائها.
لقد استنكرنا أحداث 11 سبتمبر في وقتها من واقع فهمنا وإيماننا والتزامنا بإسلامنا الذي أكد على قيم العدل والإنصاف واحترام حق كافة الناس في الحياة والأمن والحرية، وصدق الله العظيم القائل: ﴿مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ﴾ (المائدة:32)، كما استنكرها العقلاء وأصحاب القيم في شتى أرجاء العالم، وصدق تخوفنا من أنها سوف تُستغل مبررًا لضرب المسلمين وشن الحروب المدمرة عليهم، وذلك ما حدث منذ اليوم الأول لهذه الأحداث الدامية حين سارعت الآلة الإعلامية الغربية والصهيونية لاتهام المسلمين بالوقوف وراء هذه الأحداث وتنفيذها، وكان الاتهام جاهزًا وسريعًا وحاسمًا، دون انتظار لتحقيق أو تحقق، استنفر شكوك المحللين الذين رأى بعضهم أن تلك الأحداث كان لابد أن تقع لتستكمل المخططات الأمريكية والغربية للسيطرة على العالم في زمن ما بعد الحرب الباردة، ولتثبت أمريكا للدنيا أنها القطب الأوحد الذي لا يرى إلا نفسه، ولا يقبل مناوئًا له ولا شريكًا، بعد أن رفع زعماؤها شعار: "من ليس معنا فهو ضدنا" بكل ما يمثله من عنصرية واستكبار، وجاء الانتقام الأمريكي مريعًا وصاخبًا وشديد الكلفة التي دفعها المسلمون وحدهم من دمائهم وثرواتهم واستغلال بلادهم؛ ليؤكد السيد الأمريكي أنه أصبح الزعيم الأوحد للبشرية البائسة.
غير أننا بعد عامين نرى الفشل الأمريكي ذريعًا؛ فالوجود الأمريكي في أفغانستان لا يجاوز العاصمة (كابول)، والمأزق الأمريكي في العراق لا يحتاج إلى شرح أو تعليق، وهذا الفشل خطير التبعات والنتائج والدلالات؛ إذ إنه يعني فشل الزعيم الأوحد- بعد أن فشل وكلاؤه من قبل- في تنفيذ مخططاته وغاياته؛ وهو ما يؤهل للقول بأن الفشل الأمريكي يعني بداية انتهاء الحقبة الأمريكية التي لن تطول بحساب أعمار الدول وتاريخها.
لقد فشل الوكيل الصهيوني في مواجهة أصحاب الحق في فلسطين وبلاد العرب، وفشل حكام العرب والمسلمين في حصار الصحوة الإسلامية وتعطيل مسيرتها، وهي أخوف ما تخافه أمريكا والغرب؛ وهو ما استدعى أن تدخل أمريكا بنفسها حلبة الصراع، ثم يجيء فشلها وما تعانيه من مآزق دلالة لا تخطئ على إفلاس النموذج الحضاري الغربي الذي تمثله أمريكا في قيادة البشرية، وأنه قد آن الأوان أن يتراجع عن الصدارة بعدما ذاقت البشرية منه الويلات والهوان.
وهذا الإفلاس الحضاري الغربي قد تنبَّأ به فريق من نقدة الحضارة الغربية ومفكريها منذ بدايات القرن العشرين، كما أحس بواكيره وبداياته جماعة من مفكري الغرب وراسمي سياسته في أخريات هذا القرن حين انهار النموذج السوفيتي، وقالوا إنه لابد لبقاء الحضارة من وجود عدو قوي لها، ومنافس صلب يستنفد قواها للتطور والبقاء، فاستمدوا من الذاكرة الغربية نموذج الحضارة الإسلامية لتكون هي العدو، وقالوا إن الخطر الأخضر الإسلامي قد غدا بديلاً عن الخطر الأحمر الشيوعي.
التراجع الحضاري الغربي حتميّ: لقد بهرت الحضارة الغربية أنظار العالم- على امتداد أربعة قرون- بمنجزاتها العلمية الخلابة، وحيويتها التقنية والإدارية العالية، لكن ذلك كله لم يستطع أن يخفي عن الأنظار عوارها الشديد وفقرها الأصيل في الجانب الأخلاقي والقيمي؛ وهو أهم أسس ودعائم الحضارة وسماتها الحَقَّة، لقد نهضت الحضارة الغربية على قيم عنصرية أنانية ومادية صرفة قد يصلح بها الغرب نفسه وفق منظوره ورؤاه، وربما لحقبة من الزمن، لكنها لا تصلح لتكون حضارة بشرية وإنسانية للدنيا كلها.

.
ولا تملك عناصر ومقومات الاستمرار والتواصل التي روَّج لها الإعلام الغربي كخصيصة حضارية له، مثل: احترام حقوق الإنسان، وإعلاء مكانة الفرد وحرياته السياسية والاقتصادية والدينية ظلت قيمًا أنانية يتنعم بها الإنسان الغربي، ولكنه لا يرعى للآخرين حقًّا فيها، وقد جاءت أحداث 11 سبتمبر للتعبير عن ذلك المأزق الحضاري والإفلاس القيمي والعنصرية في النظرة إلى الإنسان والعالم، فأهدرت قيم العدالة واحترام القانون في معاملة من اتهموا بتدبير هذه الأحداث أو دعمها، وافتقد التحقيق الرسمي الشفافية والوضوح، وحتى اليوم أخفقت سلطات التحقيق الأمريكية في تقديم الدلائل القاطعة على إدانة فرد أو جماعة بعينها، ورغم ذلك فقد عومل المتهمون فيها معاملة قمعية فَجَّة، تجاوزت كل حد، ممن ينادون بحقوق الإنسان واحترام كرامته، ولسوف تظل معتقلات (جونتاناموا) سُبَّة في جبين الحضارة الغربية التي أقامتها أو رضيت بها أو غضت الطرف عنها، وإن صور المتهمين يساقون في أقفاص ضيقة لا تسمح لهم بإقامة ظهورهم، مكبلين في الأصفاد والأغلال، بغير تحقيق أو حقوق، سوف تظل طويلاً تؤرق ضمير الإنسان حيث كان.

وعقدت في أمريكا– بلد الحريات الغربية– المحاكمات العسكرية للمشتبه فيهم، وهي التي طالما استنكرتها في دول العالم الثالث، واعتبرتها من دلائل الهمجية والتخلف، وعانى المسلمون في أوربا وأمريكا القهر والعنت والتضييق ومصادرة حقهم في الأمن والحرية في هذه الفترة، دون النظر إلى دعاوى الحرية الدينية والشخصية التي طالما تشدق بها الغرب، وروجت لها دعايته، حتى نادى بعض المفكرين في سخرية مرة: "أهلاً بأمريكا في منتدى العالم الثالث".
ونُحِّيت وتلاشت قيم العدالة والحرية في التعامل الأمريكي مع المسألة العراقية، من خلال حرب أبيد فيها البشر، وأهدرت فيها القيم والحقوق في الحرية والاستقلال، ونهبت الثروات، وقوضت أركان الدولة تحت ستار حجة واهية هي وجود أسلحة للدمار الشامل تهدد العالم الغربي، بل العالم كله، ثم اتضح أن ذلك كله محض كذب وتدليس وغش، شارك فيه الساسة الكبار وأجهزة إعلامهم التي تدَّعِي الحرية والنزاهة، وأجريت التحقيقات بعد ذلك في ما جرى من كذب وتضليل، لكنها سوف تنتهي حين تنتهي إلى إقالة بعض المسئولين، وتوجيه اللوم إلى آخرين، أما دماء المسلمين وثرواتهم وحرياتهم فمن يعوضهم عنها إن كان يمكن ذلك التعويض؟! وتحدث العالم بعدها عن المعايير المزدوجة في النظر إلى السلاح النووي والكيماوي الموهوم في العراق والترسانة النووية والكيماوية في الكيان الصهيوني الغاصب التي لا يتحدث عنها أحد.

أما السبب في هذا الازدواج المزري فمعروف؛ إذ إن الكيان الصهيوني نموذج غربي ووكيل استعماري، يجل عن النقد ويترفع عن الاتهام!! ولينعم الإنسان الغربي بالرفاهية على حساب البترول العربي والثروة الإسلامية، وليأمن أطفالهم في فرشهم الوثيرة، أما أطفال العراق وأفغانستان وفلسطين فجريرتهم أنهم خارج سباق الحضارة الغربية؛ الأنانية والعنصرية.
ولقد بدا لكل ذي عينين منذ زمن بعيد أن حضارة الغرب تسعى لرفاهية أهلها دون غيرهم، بل إن أمريكا نفسها قامت على أنقاض وجود الهنود الحمر الذين أبادهم المهاجرون الغربيون دون رحمة، وإلى أمريكا نفسها اُقتيد آلاف الأفارقة من بلادهم قسرًا مكبَّلين في أغلالهم ليكونوا عبيدًا، أما فرنسا وإنجلترا وإيطاليا وغيرها من منظومة الحضارة الغربية فجرائمهم الاستعمارية ضد بلادنا لا تُنسى، وهل يمكن أن ننسى مليوني شهيد في الجزائر، وجرائم الاستعمار الإيطالي في ليبيا، والإنجليزي في مصر والهند، وغير ذلك كثير؟! وسمحت الحضارة الغربية التي تطنطن بحق الشعوب في تقرير مصيرها بزرع الكيان الصهيوني في قلب عالمنا العربي والإسلامي، على حساب شعب ووطن، وباركوا الأنظمة القمعية في عالمنا، وأطالوا في إعمارها بالدعم والتأييد وغض الطرف والجرائم ضد حقوق الإنسان، مادامت تضمن لهم حصار الصحوة الإسلامية المتنامية التي تخشاها أوربا، وتعدها عدوًّا لها.
أما فيما يتصل بالجانب المادي في الحضارة الغربية، فهو الآخر مهدد؛ فلا قيم تضبطه أو تضمن حسن مساره، ومن ثمََّ كان شيوع العداء لأمريكا والغرب في أنحاء واسعة من العالم كنذير خطر ينبغي أن يؤخذ في الاعتبار.
إن كثيرًا من شعوبنا يتساءل عن الدور الذي قامت به أوربا في استنزاف مواردنا، ونهب ثرواتنا طوال عقود من الاستعمار الغربي، وكيف فرضت علينا أجواء التخلف العلمي والتقني، ومازالت تسعى إلى إلزامنا باتفاقيات تجعل اقتصاد بلادنا تابعًا لها، وخادمًا لأغراضها، وتجعل عالمنا العربي والإسلامي سوقًا كبيرًا لمنتجات الغرب، يستهلك ولا ينتج.
إن ما نراه من مظاهر الحضارة الغربية الباذخة لا يعني قوتها، ولا يعني قدرتها على الاستمرار والصمود، وإن العصا الغليظة التي تتكئ عليها وتخيف بها العالم تتآكل في إصرار بفعل مظالمها الفادحة.

لكن ذلك مرهون بوجود البديل الحضاري الذي تتشوق إليه البشرية، والذي يوفر لها الأمن ويوازي بين مطامحها المادية وتطلعاتها الروحية، ويعرف للإنسان قيمته حيثما كان، بعيدًا عن العنصرية والتمييز، ويعلي قيم الأخلاق وثبوتها، وذلك لا يتحقق إلا في الإسلام، دين الله الحاكم للبشرية، ورسالته النهائية لها، وليس ذلك ادعاء بغير دليل، فإن في تاريخ حضارتنا ما يؤكد ذلك كله ويبرهن عليه بألف دليل.
ومن هنا، فإن نهوض البديل الإسلامي رهن بحمل أبنائه له، وإيمانهم به، وتقديمه للعالم ممارسةً وفعلاً وواقعًا وعملاً، وهذا دور وواجب الدعاة وصمودهم على كل صعيد أمام المظالم والعدوان، في مرحلة لابد منها لتمحيص استحقاقهم لحمل حضارة الإسلام إلى العالمين، وإننا لندعو مفكرينا وعلماءنا إلى استشراف المهمة الملقاة على عاتقهم، وسوف يحاسبهم الله عليها، وأن يردموا الفجوة المادية والهوة العلمية والتقنية، وليس ذلك بمستطاع إن لم تدعمهم توجهات السياسة وقوى الاقتصاد حين تتحرر من الخوف إلا من الله، وتثق في منطلقات دينها وأهداف عقيدتها.

وأمام الأبصار.

وفي أعماق القلوب.

وفي الأذهان يتجلى قول الحق تبارك وتعالى: ﴿فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ﴾ (الرعد: من الآية17)، ﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾ (يوسف: من الآية21).
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.