مع ذكرى ميلاد المسيح وقدوم موسم الحج
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله ومن والاه، وبعد.فها هي ذي ذكرى ميلادِ المسيحِ عليه السلام تَحِلُّ علينا، فيحتفي بها المؤمنون به، ونحن معاشر المسلمين ممن يؤمنون بالمسيح حقًّا، من غير غَمْطٍ لقَدْرِه، ولا غُلوٍّ فيه، وقد حلَّ في قرآننا وسنة نبينا محمد- صلى الله عليه وسلم- المحلَّ اللائقَ به، كواحدٍ من أولي العزم من المرسلين، الذين ضربوا أروعَ المثل في الصبر لتبليغِ دينِ اللهِ عز وجل وهدايةِ الناس، فصاروا على مدارِ التاريخِ الإنسانيِّ مناراتٍ للتأسِّي والاقتداء ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنْ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ﴾ (الأحقاف: 35).
وقد رفع القرآنُ العظيمُ ذِكرَه في الدنيا والآخرة ﴿إِذْ قَالَتْ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنْ الْمُقَرَّبِينَ﴾ (آل عمران: 45) ﴿إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ﴾ (النساء: 171)، كما كرَّم أمَّه العذراءَ البتولَ، وعدَّها صِدِّيقةً مُبرَّأةً مما رماها به قتَلةُ الأنبياءِ من اليهود أعداء المسيح من الإفك والفاحشة، وقد تسمَّت سورةٌ من سور القرآن باسمِها، وقال الله عز وجل عنها: ﴿وَإِذْ قَالَتْ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ﴾ (آل عمران: 42)، وقال عزَّ من قائل: ﴿مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمْ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ (المائدة: 75) ووصفَها رسولنا صلى الله عليه وسلم بأنها "سيدةُ نساء العالمين" ، ولا يكون المسلم مسلمًا إلا بالإيمانِ برسلِ الله جميعًا، ومنهم المسيح عليه السلام عبد الله ورسوله إلى بني إسرائيل ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ﴾ (البقرة: 285).
الاحتفاء الحقيقي بميلاد المسيح إن الاحتفاءَ الحقيقيَّ بميلاد المسيح عليه السلام إنما يكون بإحياءِ تعاليمِه التي انطمست- أو كادت- في دنيا الناس، واتباعِ ما أُرسل به من قِيَمِ السماءِ، التي جاهدَ من أجلِها المسيحُ وإخوانُه من كوكبةِ الأنبياءِ، على نبينا وعليهم أفضل الصلاة وأزكى السلام ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ﴾ (الشورى: 13)، وعلى رأسِ تلك القيم قيمةُ التواصلِ الإنساني والمساواةِ بين بني البشر ﴿وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ (الحجرات: 13) وترْكِ البغي والعدوانِ ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ* كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾ (المائدة: 78، 79)، وقيمةُ الحق الذي أُرسل به المسيحُ وإخوانُه ﴿لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمْ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ (الأعراف: 43) وقيمةُ العدلِ الطريدِ في عالمنا، والذبيحِ على يدِ جماعات ممَّن يدَّعون النسبةَ إلى المسيحِ والتغالي في الإيمان به ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ (النحل: 90)، وإذا كان محمد- صلى الله عليه وسلم- يتلو علينا قولَ ربنا: ﴿وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ (البقرة: 237) فالمسيحُ عليه السلام يُردِّد المعنى نفسَه، فيقرِّرُ أن العدلَ وحدَه قد يحجِّر القلوبَ ما لم تمازجْه دفقةٌ من محبة (لوقا 16:19- 20).
التنكر لرسالات السماء إن الناظر لواقعِ عالمِنا اليومَ يصدمُه لا محالةَ ذلك التنكُّرَ الجَحودَ لرسالات السماء، مع الانشغالِ أحيانًا ببهرج زائف من ادعاء أتباعِها والاحتفاءِ بأصحابها!! أين ما يفعله الصهاينةُ الذين يزعمون أنهم أتباعُ موسى وأنبياء بني إسرائيل ويُقيمون دولتَهم على أساس توراتي مزعوم ما نادى به موسى في وصاياه العشر: "لا تقتل، لا تسرق، لا تزنِ، ولا تشهد على قريبك شهادة زور، لا تشْتهِ بيت قريبك، لا تشْتهِ امرأة قريبك، ولا عبده ولا أمَتَه.
ولا شيئًا مما لقريبك" (سفر الخروج، الإصحاح 20: 3-17).
لقد فَسَّروا أوامرَ نبيِّهم تفسيرًا يقطر عنصريةً وبغيًا على أنها تقتصرُ على بني إسرائيل- شعب الله المختار بزعمِهم- دون بقيةِ خلقِهِ من الأميين، وعلى ذلك فقد أحلُّوا لأنفسِهم تشريدَ شعبِ فلسطينَ واحتلالَ أرضِه وقتلَ أبنائِه وشيوخِه وأطفالِه ونسائه، ويعلِّمون أبناءَهم أنهم يتقربون إلى الله بتلك الدماءِ المهراقةِ وذلك الظلم الأثيم!! ومن المؤكَّد أن المسيحَ ابن مريم لو عاشَ بيننا اليومَ لن يُسعدَه ذلك الصخبُ الداوي في الاحتفال بمولده على نحو تُنتهَك فيه الحرماتُ وتُرتُكَب صنوفُ الفساد.
لقد سمَّى أضرابَهم قديمًا بـ"المرائين"!! أكان المسيح يَرضى عن صنيعِ بوش في العراق وأفغانستان؟! فلْيزعُم بوش ما شاء له خيالُه أنه مكلَّفٌ من الله بغزو العراق وإجراءِ الدم المسلم بها أنهارًا، وتجويعِ أهلها، وتعذيبِ أحرارِها، وهتكِ أعراضِ نسائها في سجونه ومعتقلاته، ولْيذهب بعد ذلك إلى الكنيسة في صحبةِ أتباعِه من الإنجيليين الصهاينةِ وأيديهم ملطخةٌ بالدماء، ثم لْيرتل قول المسيح في جرأة بالغة: "أحبوا أعداءَكم، وأحسِنوا إلى مبغضيكم، وصلُّوا من أجل من يُعنتكم ويضطهدكم.
" (متى 5: 43-44)، وليقرأ قوله عليه السلام: "مَن لطمك على خدك الأيمن فحوِّل له الأيسر، ومن أخذ رداءَك فلا تمنعه ثوبَك" (لوقا 6: 28-29) ثم لْيقل لنا: أين هو من حقيقةِ تعاليم المسيح؟! وعن أي دينٍ يتحدث؟! و أيةُ أحقاد يؤجِّجُها باسم الدين؟! وماذا كان المسيح قائلاً لو عاش بيننا اليومَ وهو يرى مَن يزعمون أنهم أتباعُه في الغرب ينهبون خيراتِ الشعوبِ المغلوبةِ، ويرهنون لصالحهم مقدراتِها وثرواتِها، ويدبرون أمرَ نظامهم العالمي الجديد بحيث يمسكون أزمَّة اقتصاد الدنيا ويديرونه لحسابهم؟! ثم ينفقون أموالَهم وأموالَ من سطَوا على أرزاقهم سفهًا وبطشًا على ملذاتهم الآثمة وشهواتهم الفاجرة، بينما ملايينُ البشر- بفعل سياساتهم- يتضوَّرون جوعًا ويموتون مسغبةً!! ثم يمضون إلى صلواتهم يتمتمون قائلين: "خبزنا كفافنا.
أعطنا كل يوم"، ويتْلُون قول المسيح: "يعسر أن يدخل غنيٌّ ملكوتَ الله.
ولَدخول الجملِ في ثقب إبرة أيسرُ من دخول الأغنياء ملكوت الله"!! وماذا كان المسيح قائلاً وهو يرى كثيرًا من أتباعه صرعى شهواتِهم، وقد أباحوا لأنفسهم الفواحشَ والزنا، وزيَّنوه للعالم من خلالِ آلتِهم الإعلاميةِ الهائلةِ، ثم يرتلون قولَ المسيح: "قد سمعتم أنه قيل للأولين: لا تزنِ، أما أنا فأقول لكم: إن كل من نظر إلى امرأة لكي يشتهيَها فقد زنى بها في قلبِه" (متى 5 :17)، بل إن بعض مَن ينتسبون إلى "رجال الدين" منهم يمارسون الشذوذَ الجنسيَّ، ويدافع حكامُهم عما يسمونه بحقوق الشواذ، ثم يمضون في حرب الفضيلة والأخلاق القويمة فيَحرمون على المسلمات في بلادهم ارتداءَ الحجاب والتزامَ العفة، وهم يردِّدون في الوقت ذاته قولَ بولس لهم: "إذ المرأة إن كانت لا تتغطى فليُقَصّ شعرُها" (كونثوس الأولى 11:1)، وقوله: "احكموا في أنفسكم: هل يليق بالمرأة أن تصليَ إلى الله وهي غير مغطاة"؟! مع الاستعداد للحج الحجيج يؤدون المناسك وفي هذه الأيام تتوافد جموعُ المسلمين إلى بيت الله الحرام لأداء فريضة الحج، فتشكِّل تلكَ الجموعُ الحاشدةُ أعظمَ تجمع إيماني لا نظيرَ له في دنيا الناس.
إن قرابة مليونَين من البشر قد جمعهم الإسلام على نسك رباني واحد، فلم يفرق بينهم اختلافُ أوطانهم وأجناسهم، ولم تقعد بهم عن تلبية ندائه جواذبُ الأرض ولا شواغلُ العيش؛ لتتجلَّى بذلك أعظمُ سمات هذه الأمة.
أنها أمةُ التوحيد والوحدة التي لم تفلح نكباتُ الدنيا ولا مؤامراتُ الأعداء في طمس حقيقتها.
﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾ (الأنبياء: 92)، ﴿وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ﴾ (المؤمنون: 52).
إن الإسلام وحدَه هو القادر على تحريك هذه الأمة وحشدها، ورصِّ صفوفِها وإطلاقِ طاقاتِها وإبرازِ ملكاتِها وخصائصِها وعوامل القوة الكامنة فيها، والحجُّ جهادٌ، ولطالما ربطَ القرآنُ الكريمُ بين شعائر الحج والجهاد والنفقة في سبيل الله، فلَيت المسلمين يعيشون تلك المعاني في هذه الأيام المباركة، ويذكرون إخوانًا لهم حبَسَهم عن مشاركتهم الجهاد والمرابطة- أو منعهم- الحصارُ الآثمُ الذي يقاسُونه، أو غيَّبتهم معتقلاتُ الظالمين وسجونُهم.
ونحن في هذا المقام ندعو الله تعالى أن يُثبِّتَ خطاهم ويفرِّجَ كربَهم، ويَخلفَهم في أهليهم بخير ما يخلف به عباده الصالحين، وأن يهيِّئ لهذه الأمة أمرَ رشدٍ، يعز فيه أهل طاعته ويذل فيه أهل معاندته.
وللحديث بقية إن شاء الله تعالى.
﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾ (يوسف: 21).
وصلى الله على سيدنا محمدٍ وعلى آله وصحبه وسلم.