رمضان شهر النصر والفضل
رسالة من محمد مهدي عاكف المرشد العام للإخوان المسلمين بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله ومَن والاه، وبعد.فقد ارتبط شهر رمضان في تاريخنا بالانتصارات الكبرى التي مثَّلت تحولات ومعالم بارزة؛ ليس في تاريخ المسلمين فحسب، بل في تاريخ الإنسانية والعالم، وهو ارتباط لم يأتِ مصادفةً، فقد تكرر على نحوٍ يدفع إلى التفكير والتأمل والدرس.
ولا عجبَ، فإن الصومَ ذاته جهاد، ميدانه الأول نفوس أصحابه، فإن قدروا عليها كانوا على غيرها أقدر، وإن انتصروا عليها كان انتصارهم على أعدائهم أهون وأيسر.
فهو جهادٌ للنفس يقود إلى ترويضها حتى يسلس قيادها، وتستعلي على جواذب الأرض وشهواتها التي أذَّلت أصحابها، وقعدت بهم، وعكَّرت صفو أرواحهم، وحالت دون ارتقائها إلى الملأ الأعلى.
وليس متوقعًا ممن يخوضون غمرات هذا التطهير النفسي والروحي وينتصرون فيه أن يقبلوا استضعافًا، أو يرتضوا ضيمًا، كيف وقد صغرت عندهم الدنيا، وعظمت الآخرة، وتزينت الجنة، وسعى إليها خُطَّابها؟.
والله تعالى يربيهم في قرآنه فيقول: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97)﴾ (النساء).
وبهذا الاستعداد النفسي كان الصائمون يخوضون معاركهم، وكان النصر حليفًا لهم، سائرًا في ركابهم.
غزوة بدر الكبرى في رمضان من السنة الثانية للهجرة كانت غزوة بدر الكبرى، وكانت إذنًا من الله تعالى للمظلومين الذين أُخرجوا من ديارهم وأموالهم أن يقتصوا من ظالميهم، ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ.
﴾ (الحج)، وكانت إيذانًا من الله تعالى بالتمكين لأهل الصلاح وحملة رسالة الخير ﴿الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ (41)﴾ (الحج).
وكان يوم بدر فاصلاً في تاريخ المسلمين ودولتهم الناشئة.
أسماه الله تعالى يوم الفرقان الذي فرَّق به بين الحق والباطل.
﴿يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ﴾ (الأنفال من الآية 41).
وماذا لو انهزم المسلمون يومها؟ أكانت تقوم لدولتهم قائمة؟ وكم كانت تخسر البشرية كلها لو زالت دولة الإسلام يومها، ولم تعد للحق منارة ولا راية؟؟ لقد وقف رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يومها يدعو الله ويلحُّ عليه في الدعاء قائلاً: "اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تُعبد في الأرض" .
أما أصحابه الذين نذروا أنفسهم لفداء الحق ونصْب ميزان العدل فقد قال قائلهم للرسول الأعظم- صلى الله عليه وسلم-: والذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلَّف منا رجل واحد.
"، كانوا ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً ليس بينهم سوى فارسين يلاقون ثلاثة أضعافهم عددًا، وصفهم النبي- صلى الله عليه وسلم- بقوله في دعائه: "اللهم إنهم حفاة فاحملهم، عالة فأغنهم، جياع فأطعمهم" ، فلم تقعد بهم قلة العدد والعدة وشدة الضرورة والحاجة عن نصرة الحق الذي أخلصوا له، والفكرة التي انبعثوا من أجلها.
فلا عجبَ أن كان انتصارهم عزاءً للمستضعفين في الأرض الذين يبحثون عن غدٍ أفضل لعالمهم، وإعزازًا للدعاة إلى الحق المطارد وهم يصرون على مواصلة طريقهم، وإن أجلبت عليهم قوى الشر، ورمتهم عن قوسٍ واحدة.
فتح الأندلس وفي رمضان سنة 92هـ كان بدء فتح المسلمين الأندلس، يقودهم القاد المسلم البربري الأصل طارق بن زياد الذي دخل الإسلام منذ سنواتٍ معدوداتٍ فجعل منه الإسلام- الذي لا يُفرِّق بين أبنائه بجنسٍ ولا عصبية- واحدًا من أبرز القادة في التاريخ.
وحين وضع طارق ورجاله أقدامهم على العدوة الأوروبية كانوا يخطون تاريخًا جديدًا للعالم، تعرَّفت فيه أوروبا على الإسلام وحضارته التي نقلتها من وهدةِ التخلف والهمجية إلى عالمٍ فسيحٍ من التقدم والنور.
يقول المؤرخ الأوروبي المنصف جوستاف لوبون: "وإذا رجعنا إلى القرن التاسع والعاشر الميلاديين وجدنا أن الحضارة الإسلامية في إسبانيا كانت ساطعةً جدًّا، وأن مراكز الثفافة في الغرب كانت أبراجًا يسكنها السادة المتوحشون الذين يفخرون بأنهم لا يقرأون.
ودامت همجية أوروبا البالغة زمنًا طويلاً من غير أن تشعر بها، ولم يبدُ في أوروبا بعض الميل إلى العلم إلا في القرن الحادي عشر والثاني عشر الميلاديين؛ وذلك حين ظهر فيهم أناسٌ أرادوا أن يرفعوا أكفان الجهل الثقيل عنهم، فولوا وجوههم شطر العرب (المسلمين) الذين كانوا أئمة وحدهم".
ويصف رحالة أندلسي في القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي هو إبراهيم بن يعقوب الطرطوشي أهل جليقية في شمالي إسبانيا الذين ظلوا بعيدين عن حكم المسلمين ومدنيتهم القريبة منهم فيقول إنهم: "أهل غدرٍ ودناءة أخلاق، لا يتنظفون، ولا يغتسلون في العام إلا مرةً أو مرتين بالماء البارد، ولا يغسلون ثيابهم منذ يلبسونها إلى أن تنقطع عنهم، ويزعمون أن الوسخ الذي يعلوها من عرقهم تنعم به أجسادهم، وتصح أبدانهم"!! تلك كانت حالهم حين كان المسلمون يشيدون أرقى الحضارات في الأندلس، ويأتيهم طلاب العلم من أنحاء أوروبا لينهلوا منهم، ثم يعودوا إلى شعوبهم رسل حضارة وبناة مجد.
وإن ذلك كله ليصب في صحائف هؤلاء الصائمين الأولين الذين فتحوا الأندلس ففتحوا معها للعالم آفاق فجر جديد.
معركة عين جالوت وفي رمضان سنة 658هـ كانت معركة عين جالوت؛ حيث انتصر المسلمون في مصر والشام على جحافل المغول الذين أقبلوا من أواسط آسيا وشرقيها ينشرون الدمار والموت، ويقضون في زحفهم المريع على كلِّ مدنية، وتدوس سنابك خيولهم على جثث مئات الألوف من البشر، وتعبر نهر دجلة فوق أكداس الكتب التي تحوي عصارة أزهى حضارات الأرض، والتي امتلأ بها النهر حتى اسودَّت مياهه بأحبارها.
وقتلوا في بغداد آخر خليفةٍ عباسي بها، وأزهقوا أرواح نحو مليون من البشر أو يزيدون في أيامٍ معدوداتٍ نَحِسات.
انضافوا إلى ملايين آخرين قتلوهم بغير رحمةٍ في زحفهم الأسود، فقد قتلوا في "مرو" وحدها زُهاء سبعمائة ألف نفس.
وكما حلَّ بلاؤهم ببلاد الإسلام امتدت طلائعه إلى شرق أوروبا فباتوا يهددون العالم كله.
فكان تصدي المسلمين لهم وانتصارهم عليهم إنقاذًا للبشرية كلها وللحضارة الإنسانية؛ حيث كانت.
لقد أدركت قيادة المسلمين وسلطانهم المظفر قطز أنهم يخطون تاريخًا مجيدًا له ما بعده، وتكاتفت الأمة خلف قادتها يحركها علماء كبار على رأسهم الرجل الرباني العز بن عبد السلام، يحيون فيها معاني الجهاد وقيمة الاستشهاد، ويذكرونها بدورها الرائد الذي أراده الله لها.
﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ (آل عمران: من الآية 110) ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ (البقرة: من الآية 143).
ولما حمي الوطيس وحانت اللحظة الفاصلة في تاريخ الأمة والعالم ترجَّل السلطان قطز عن جواده صارخًا في جنده: "وا إسلاماه"، طالبًا الشهادة، فكُتبت له الحياةَ ولأمته ولقيم التحضر والبناء، لا الهمجية والهدم.
وبعد: فهذه ثلاثة أمثلة من انتصاراتنا الكبرى في رمضان، صاغتها سواعد الصائمين، وصنعتها أرواحهم الزكية ودماؤهم الطاهرة، فقدَّموا للبشرية وللإنسان غدًا أفضل، وحموا حضارته ومنجزاته، وانتقلوا بها إلى الأمام خطوات أبعد ومدارج أرقى.
إن رمضان شهر القرآن والصوم يطل علينا من زاويةٍ أخرى حين نراه صاحب فضلٍ غير مسبوق، ليس على المسلمين فحسب بل على العالم أجمع.
وعلى الإنسان في كلِّ مكان.
فهل يُدرك المسلمون اليوم ما في أيديهم من خير، وما في تاريخهم من مجد؟ وما يمكن أن يقدموه للبشرية الحائرة اليوم من هدايةٍ ورشاد؟؟ وهل يدركون أن تراجعهم عن ذلك الدور الذي أراده الإسلام لهم كان خسارةً جسيمةً يدفعون ثمنها هم ومَن سواهم، حيث يفسحون المجال لقوى التدمير والشر التي جعلت الحياة أكثر بؤسًا وكآبةً، وجعلت الإنسان مسخًا يتخبط في الحياة على غير هدى، ولا يرى له سعادة إلا في شقاء الآخرين، ولا يعلو بناؤه إلا على أنقاض أحلام البسطاء والمستضعفين؟؟ والله نسأل أن يكون شهرنا هذا عامل إيقاظٍ للأمة لتؤدي دورها المنوط بها في عمارة الأرض وتكريم الإنسان وإسعاد العالم.
﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾ (يوسف: من الآية 21).
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.