العيد الذي تنتظره الأمة حين تتحرر الأوطان
رسالة من محمد مهدي عاكف المرشد العام للإخوان المسلمين رمضان يرحل بالآمال والآلام الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومَن والاه، وبعد، فها هو رمضان يطوي سجله راحلاً إلى ربه، وقد كان معمورًا بآمالٍ عظام في التغيير والإصلاح للنفوس والأوطان والمجتمعات، تحقق بعضُها، وبقي الكثير مما يأمل المخلصون في تحقيقه، وهكذا تُطْوَى الأعمار، وتفنى الدهور يومًا بعد يوم، ثم يرى الإنسانُ نفسه وجهًا لوجه أمام ربه عز وجل، ليس بينه وبينه ترجمان، ويرى الحياةَ بطولها لم تكن إلا ساعةً من نهار، كما قال الله عز وجل ﴿كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ﴾ (الأحقاف: من الآية 35)، ﴿كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (46) ﴾ (النازعات).وإذ يَطوي الشهرُ الكريمُ صفحاتِه فإنه يشهد للمجتهدين والصابرين، ويشهد على المقصِّرين والظالمين، وسوف يفتح تلك الصفحات بين يدي الله؛ ليكشف ما أحدث الخلقُ فيه من خير وشر، في يوم لا تفيد فيه ندامةُ النادمين، ولا تنفع فيه شفاعةُ الشافعين.
فيا تُرى ماذا سيكون حالُ الذين لم يراعوا حرمةَ الشهر الكريم، فاعتقلوا البرآءَ بغير ذنب، واغتالوا فرحةَ أطفالهم وذويهم بالعيد بغير رحمة، وصادروا أموالَهم بالباطل، واعتدوا على أحكام القضاء الواجبة النفاذ ببراءتهم، واستغلوا السلطةَ التي اغتصبوها في إهانة الأمة، وطاردوا الصائمين القائمين، ومنعوا المعتكفين، ومنعوا الأبناء أن يسيروا في جنازة أمهاتهم أو أن يتلقوا العزاء المشروع فيهم، ولم يتورعوا عن مطاردة الجنازات واعتقال من شارك فيها؟، كل ذلك في الوقت الذي سمحوا فيه للمفسدين- حتى في الشهر الكريم- أن يعبثوا بأخلاق الأمة، ويستهزئوا بثوابتها، ويحاولوا تدمير قيمها وميراثها الحضاري.
كونوا ربانيين لا رمضانيين أيها الإخوان المسلمون، أيها المسلمون أجمعون، يجب أن يكون لنا وقفةٌ مع انصراف الشهر الكريم، نعاهد الله فيها أن نستمر على ما كنا عليه من الخير والطاعة في رمضان، وألا نكون رمضانيين، نعبد الله في رمضان فقط، فإذا مضى رمضانُ عُدْنا للَّهو والعبث، فلقد جعل الله رمضانَ فرصةً ليتعوَّد الإنسان عاداتِ الخير ويستمر عليها من بعده، وتلك هي ثمرةُ الصوم الحقيقة التي تظهر بعد رمضان.
وقد كان صلى الله عليه وسلم يداوم على أعمال الخير، ولما سُئِلَ صلى الله عليه وسلم: أَيُّ الأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ؟ قَالَ: "أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ" (البخاري)، وكان صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "أَحَبُّ الْعَمَلِ إِلَى اللهِ مَا دَاوَمَ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ وَإِنْ قَلَّ" (مسلم).
كما دعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدوامة على ما اعتاد المرءُ من الخير من غير تفريط، فقال صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو رضي الله عنه: "يَا عَبْدَ اللهِ، لاَ تَكُنْ مِثْلَ فُلاَنٍ، كَانَ يَقُومُ اللَّيْلَ فَتَرَكَ قِيَامَ اللَّيْلِ" (البخاري).
إذا ما المرء صام عن الدنايا فكل شهوره شهر الصيام نحن أمام اختبارٍ بعد رمضان، ينبغي أن نكون فيه عقلاء لا ننقض ما غزلنا، ولا نضيع ما بذلنا فيه جهدنا، ولا ننكث بعهد الله الذي عاهدناه، وقد نبهنا الله عزَّ وجلَّ وحذرنا من هذا السلوك الخاطئ، فقال سبحانه ﴿وَلاَ تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا﴾ (النحل: من الآية 92)، فلنكن ربانيين لا رمضانيين.
هنيئًا بالعيد أيها الإخوان، أيها المسلمون، وإذ نودع شهر الخير والطاعات، فإننا نستقبل العيد الذي جعله الله تبارك وتعالى فرحةً للمسلمين بعد أن أتم عليهم نعمةَ الصيام، وأكملوا عدةَ رمضان، وقد قال ربنا تبارك وتعالى: ﴿وَلِتُكْمِلُوا العِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ (البقرة: من الآية 185).
فالحمد لله الذي أتمَّ علينا النعمة وأكمل لنا العدة، وكل عام وأمتنا الإسلامية بخير، سائلاً الله تبارك وتعالى أن يعيد هذا العيد على الأمة بالعز والنصر والتمكين، وعلى الإنسانية التائهة بالهداية والتوفيق.
عِيدَ الْهَنَاءَ فَكُنْ عَلَيْنا نِعمَةً وَمِنَ الْكَرِيمِ فَجِئْنَا بِالإمْدَادِ وَاِحْمِلْ إِِلَى الأَحْبَابِ صَفوَ تَحِيَّتِي مَشْفُوعَةً بِمَحَبَّتي وَوِدَادِي وجديرٌ بنا في هذه المناسبة الكريمة أن نمد إلى إخواننا وجيراننا وأرحامنا أيديَنا بالمصافحة، وألسنتَنا بالكلام الطيب، وقلوبَنا بالحب والصفاء خالية من الأضغان والأحقاد والشحناء والبغضاء.
هذا هو جوهر العيد في الإسلام، فرحٌ بفضل الله، ووصلٌ للناس وللأرحام، وتقويةٌ لأواصر المودَّة، وتفريجٌ لهمّ المهمومين وكرب المكروبين وتيسيرٌ على المعسرين، لتكون فرحةُ العيد فرحةً شاملة للجميع.
متى يكون عيدنا الحقيقي؟ ذلك عيدُنا الشرعي نقوم بشعائره؛ امتثالاً لأمر الله، واحتسابًا لما عنده، وإحياءً لشعائره.
ولكن متى يكون عيدنا الحقيقي؟: - عيدنا الحقيقي هو يوم تنتصر دعوتُنا، وتنهض دولتُنا، وتعلو بنا كلمة الله في أرضه، وتزول هذه الغشاوة، وتنقشع هذه الغُمة التي تحياها هذه الأمة، وتعود لأمة الإسلام قيادتُها للبشرية، ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله.
- عيدنا الحقيقي حين تنهض أمتنا من كبوتها، ويضع الله عنها إصرها والأغلال التي كبلتها، ويزيح عنها الاستبدادَ الذي أثقل كاهلها، وأخَّرها، وقعد بها عن مسابقة الأمم في ميدان الحضارة الفسيح.
- عيدنا الحقيقي عندما يفرح المظلومون القابعون خلف أسوار الاستبداد ظلمًا وعدوانًا بغير محاكمةٍ عادلةٍ، ومن غير جرم اقترفوه، سوى أنهم قالوا ربنا الله، وأرادوا العزَّ لأمتهم، والتمكينَ لدينهم، والخدمةَ لأوطانهم وذويهم، فساء ذلك الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون، فحالوا بينهم وبين أداء رسالتهم، وحرموا الأمةَ من جهودهم وعطائهم، ومنعوهم من حقوقهم المشروعة، أملاً في إسكات صوتهم أو منعهم من المشاركة في بناء أوطانهم، حين يفرح هؤلاء المظلومون وذووهم بجمع الشمل ونيل حريتهم فهذا هو العيد الحقيقي.
- عيدنا الحقيقي حين تتحرر فلسطينُ المباركة أرضُ الرباط، ويتحرر المسجد الأقصى الأسير، ويعود ألوف الأسرى الأبطال إلى بيوتهم وإلى أحضان أسرهم، وتقوم دولةُ فلسطين الحرةُ المستقلة وعاصمتها القدس الشريف على ثرى فلسطين الطاهر.
- عيدنا الحقيقي حين تتحرر أوطاننا تحررًا حقيقيًّا من كل سلطانٍ أجنبيٍّ ظاهرٍ أو خفيٍ، تحت أي مسمى وأي عنوان وأي لافتة، وحين تكون كلمةُ الأمة بيدها، وقراراتُها نابعةً من إرادتها، ومحققةً لمصالحها، وحين تتخلص من معاهدات الذل والعار التي قيدتها ومزقتها.
- عيدنا الحقيقي حين يتوقف سيل الدماء النازف من جسد الأمة، وحين يتحول بأس الأمة من الحروب بين الإخوة إلى الحرب ضد أعداء الأمة وخصومها، وحين تقوم الأمة بتحقيق الوحدة الشاملة.
فيا أمتنا المسلمة، ويا كل النخب السياسية والثقافية والدينية في أمتنا الإسلامية تعالوا إلى كلمةٍ سواء، أن نتكاتف لإقرار الحريات والحقوق الشرعية والإنسانية والوطنية، ومحاربة الاستبداد المدمر لقوى الأمة الحية، وأن نتعاون للتخلص من سيطرة الأجنبي والخضوع لإملاءاته، فعدوُّنا لن يريد بنا خيرًا، واسترضاءُ الأعداء لن يحقِّق لنا سوى الخسران المبين ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (149) بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150) ﴾ (آل عمران)، وكونوا على يقينٍ من نصر الله لدينه ودعوته، إذا تحرَّكت الأمة في الاتجاه الصحيح.
تهنئة خاصة في ظلال هذا الواقع الذي نسأل الله أن يغيره إلى أحسن حال يتقدم الإخوان المسلمون بخالص التهنئة لعموم المسلمين، ويخصون بالتهنئة: - إخواننا الأبطالَ الذين يتعرضون للظلم في سجون المستبدين بعد محاكماتٍ مسرحية هزلية، وأقول لهم: صبرًا صبرًا فإن مع العسر يسرًا، وثقوا بأن الله لا يغفل عنكم ولا عن جلاديكم ﴿وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ (42)﴾ (إبراهيم).
- إخواننا المعتقلين، والذين أُعيد اعتقالهم بغير حق بعد أن برَّأتهم المحاكم الطبيعية، وأكدت خلو ساحتهم من أي فعل يمكن اعتباره جريمة، ونقول لهم: صبرًا فإن حبل الظلم قصير، ولا يغترن أحد بإمهال الله للظالمين، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللَّهَ لَيُمْلِى لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ" ، ثُمَّ قَرَأَ صلى الله عليه وسلم ﴿وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهْىَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102)﴾ (هود) (متفق عليه).
- إخواننا الأبطالَ الأسرى في سجون الاحتلال الصهيوني الغاصب، والمجاهدين على ثرى فلسطين الطاهرة، ونقول لهم: صبرًا فإن نصر الله قريب ﴿إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51)﴾ (غافر).
- إخواننا المجاهدين بألسنتهم وأيديهم وأموالهم على امتداد ساحة الأمة الإسلامية، ونقول لهم: صبرًا فوعد الله بنصر الحق آتٍ لا ريب فيه ﴿فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47)﴾ (الروم).
وأسأل الله العظيم أن يتقبَّل منا الصيام والقيام وصالح الأعمال، وأن يهيئ لأمتنا من أمرها رشدًا، والله أكبر ولله الحمد.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
القاهرة في: 27 من رمضان 1430هـ الموافق 17 من سبتمبر 2009م