رسالة إلى العمال في عيدهم.. مايو 2010م
رسالة من د.محمد بديع- المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد.
فالعمل في الإسلام سنة الحياة، وقانون الوجود، وطريق السعادة في الدنيا والآخرة، وقد حثَّ الإسلام على العمل والسعي والنشاط والحركة حتى تمضيَ سنة استخلاف الإنسان في الأرض وتعميره لها في يسرٍ وسهولةٍ وفي وضوحٍ وجلاءٍ.
ولقد رفع الإسلام العمل إلى منزلة رفيعة سامية؛ حيث جعل العمل الصالح في المرتبة الثانية بعد الإيمان بالله فقال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً (30)﴾ (الكهف).
ولم يفرِّق الإسلام بين العمل الفكري والعمل اليدوي؛ بل اعتبر الأخير أساسًا للحياة وأفضل أنواع الرزق، فقال صلى الله عليه وسلم: " ما أكل أحد طعامًا قط خيرًا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده "، ومما أشارت إليه السنة أن الأنبياء عليهم السلام- مع علوِّ درجتهم- كان العمل طريقهم، فآدم احترف الزراعة، ونوح احترف النجارة، وداود احترف الحدادة، وموسى احترف الكتابة، فكان يكتب التوراة بيده، وكلٌّ منهم قد رعى الغنم، وكان زكريا عليه السلام نجَّارًا، ومحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم بدأ حياته راعيًا للغنم وفي شبابه عمل في التجارة.
وقد تأصَّل حب العمل عند المسلمين حتى لنرى قادة الفكر منهم يلجئون إلى العمل اليدوي ولا يجدون غضاضةً في ذلك، فكان الفقيه القُدُّوري يشتغل بصناعة القُدُور، وكان الفقيه الخصاف (الذي ألَّف كتاب الخَرَاج) يعيش من خصف النعال، ونسب الثعالبي- رأس المؤلفين في زمانه- إلى الثعالب لأنه كان فرَّاء، والزّجّاج عالم اللغة كان يعمل خراطًا للزجاج.
وفي الحديث الشريف يقول صلى الله عليه وسلم: " من أمسى كالاًّ من عمل يده أمسى مغفورًا له "، وأمسك رسول الله صلى الله عليه وسلم بيد عامل خشنة وهو يقول: " هذه يد يحبها الله ورسوله ".
ولقد كانت ساحة العمل والعمال من الساحات التي أولاها الإخوان المسلمون- ولا يزالون- اهتمامًا كبيرًا وعنايةً عظيمةً، انطلاقًا من تأكيد الإسلام أهمية العمل والعطاء، والبذل والتضحية ومن منطق تكريمه الأيدي العاملة ودفعه الناس للسعي في الأرض يبنون ويشيدون وينشرون الخير والنور ويبذلون العرق والجهد، وصولاً إلى العيش الكريم الحلال، ويعطون البشرية المثال والقدوة ويجمعونها على البر والتقوى.
ولقد ربَّى الإخوان المسلمون أجيالاً على كل الساحات، ومنها ساحة العمل والعمال، وتركوا البصمات على صفحات تاريخ هذا البلد خاليةً من الشوائب أروع وأنقى ما تكون؛ فكان من العمال الذين تربَّوا وترعرعوا في مدرسة الإخوان المسلمين مجاهدون ضحَّوا بالأرواح دفاعًا عن الأرض والعرض، كما كان منهم النماذج الرائعة في النهوض برسالة ودور العامل في العطاء والإنتاج والحرص على المال العام وإيثار المصلحة العامة وإنكار الذات.
وقد كتب الإمام البنا رسالةً خاصةً، تحضُّ على العمل عنوانها: "نحن قوم عمليون؟!" أي نعتمد على الأعمال لا على الأقوال، كما وجَّه البنا الإخوان إلى العمل والإتقان فيه، فقال فـي رسالة "التعاليم": - أن تزاول عملاً اقتصاديًّا مهما كنت غنيًّا.
- وأن تقوم على العمل الحر مهما كان ضئيلاً، وأن تزج نفسك فيه مهما كانت مواهبك العلمية.
- وأن تحرص كل الحرص على أداء مهمتك من حيث الإجادة والإتقان وعدم الغش وضبط المواعيد.
إن الإتقان والأمانة والوفاء بالوعد وتجنُّب الكذب والخداع والغش.
كلُّ ذلك من القيم التي سادت مجتمعات العمال في القديم، والتي يعمل الإخوان على نشرها وترسيخها؛ حتى تصبح سمة المجتمع العمالي على الساحة العالمية.
وإذا كان العالم كله يحتفل في هذا الشهر (مايو) بعيد العمال ويكرِّم العامل ويعتبره أساس الحضارة وباني الأمم؛ فإننا نتألم حينما تنقلب الأوضاع في أوطاننا الإسلامية، وخصوصًا في مصر، فتتبدل القيم الخاصة بالعمال وينقلب الهرم الاجتماعي والطبقي؛ حتى أصبح العمال في الدرجة الأدنى من السلَّم الاجتماعي؛ يعانون الفقر، وضعف الأجور، والخروج إلى المعاش المبكر، وتحكُّم أصحاب المال والثروة في أقواتهم وأرزاقهم؛ حتى أصبحت مصر طاردةً للعمالة الفنية المتميزة، والتي سافرت أو هاجرت وعانت الويلات من سوء المعاملة في البلاد التي نزحوا إليها.
ورغم أن النقابات العمالية هي المنوطة بالدفاع عن حقوق العمال فإنها تخلَّت عن مصالح العمال، بل أصبحت سيفًا مصلتًا على رقابهم.
لقد طالبنا الإسلام العظيم بأن نعطي الأجير حقه قبل أن يجف عرقه، وتناولت المواثيق الحقوقية- سواء الصادرة عن الأمم المتحدة أو منظمة العمل الدولية- حقوق العمال في العمل دون تمييز، مع إعطائهم الأجر الكافي لتوفير الاحتياجات الأساسية لهم من مأكل وملبس ومشرب، وحمايتهم من البطالة، ورعايتهم وتدريبهم لإكسابهم المهارات اللازمة لمواجهة التطور، ولكنَّ العمال في وطننا الإسلامي افتقدوا كل ذلك، خصوصًا في الأقطار التي تمت خصخصة الشركات فيها وبيعها للأجانب بأبخس الأثمان.
لقد أمرنا الإسلام بتوفير الأمن الاقتصادي والمعنوي للعمال، وجعل الله تعالى من مننه على قريش ﴿الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)﴾ (قريش).
وإذا كان الجوع لا يزال شبحًا مرعبًا للطبقة العاملة في عالمنا الإسلامي فإن غياب الأمن أشدّ وقعًا على نفوس العاملين، سواءٌ في أوطانهم الأصلية أو في العمالة الوافدة إلى الأقطار التي منَّ الله عليها بالثروة البترولية.
فاستمرار حالة الطوارئ في مصر- والتي تجاوزت الثلاثين عامًا- هو انتهاكٌ خطيرٌ لحقوق الإنسان والعمال؛ حيث مُنعوا في ظلها من الحصول على حقوقهم المسلوبة أو التعبير السلمي بالتظاهر أو الإضراب، فضلاً عن الترشيح لعضوية النقابات، بل تمَّ اعتقال الآلاف والزجُّ بهم في السجون والمعتقلات.
وأخيرًا، أوجِّه ندائي إلى العمال في عيدهم بالحفاظ على قيم الإسلام في العمل، والعمل بمقتضاها، فإن المطالبة بالحقوق لا بد معها من الحفاظ على ما تبقَّى من منشآتنا ومصانعنا، والتي هي سبيل الدفاع عن الوطن وأمنه القومي والتصدِّي لمحاولات إهدار المال العام وإيثار المصلحة العامة على المصلحة الشخصية، مع السعي للحفاظ على حقوق العمال وحمايتهم من الاضطهاد والتعسف.
والله من وراء القصد، وهو يهدي السبيل.