الموقع الرسمي للإخوان المسلمون

رسالة الأسبوع

رسالة أسبوعية تصدر عن جماعة الإخوان المسلمين

 قيم وأخلاق.. لنهضة الأمة

قيم وأخلاق.. لنهضة الأمة

رسالة من: أ.
د.
محمد بديع- المرشد العام للإخوان المسلمين   الحمد لله حمدًا كثيرًا مباركًا فيه، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه وسلم، وبعد.

  الإسلام دين الله ودين جميع الأنبياء والرسل كان وما زال وسيظل هو المنقذ الحقيقي للبشرية مما تعانيه من تحديات عظيمة تتعرض لها عبر السنين، ومن أهم ركائز الإسلام العملية لتحقيق نهضته الواقعية كانت منظومة القيم والأخلاق التي رسَّخها في النفوس، فتحركت الجوارح ونطقت الأعمال وتحققت الآمال العظيمة التي كانت تُعَدُّ دربًا من الخيال.
  وتجسَّدت تلك المبادئ بصورة عملية في تربية المصطفى صلى الله عليه وسلم لأصحابه- رضوان الله عليهم جميعًا- على غرس تلك الأخلاق في نفوس أصحابه ففتحوا بها الدنيا، وكانوا مُثلاً عُلْيا تسير على الأرض، وقد عبَّر عنها الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم حين قال: " إنَّما بُعِثْتُ لأتمِّمَ مكارمَ الأخلاقِ ".
كما نجد أن القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة قد أكَّدا مرارًا ضرورة أن يكون هناك فعل تطبيقي يرافق الإيمان والمعتقد، ويطبق هذا الإيمان في واقع حال الإنسان، وهذا ما عبَّر عنه بوضوح ما ورد في الأثر " الإيمانُ هُوَ مَا وَقَرَ في القلبِ، وصَدَّقَه العَملُ ".
  وقد عَرَّف بعض العلماء الأخلاق بأنَّها: "مجموعةٌ من المكارم والسلوكيات المعبرة عنها، تحيا بها الأُمَمُ كما يحيا الجسم بأجهِزَتِه وغُدَدِه"، ومن هنا فإن بناء النهضة الحقيقية للأمة لا بد أن يقوم على دعائم أخلاقية حقيقية كما أمرنا الإسلام الحنيف، فبناء النهضة على أسس مادية بحتة يُقوِّضها ولا يقوِّيها ويحمل عوامل الهدم في جنباته، وفي التاريخ القديم والحديث ما يثبت ذلك بالدليل والبرهان.
  ولا يخفى علينا أن ما تحياه أمتنا العربية والإسلامية الآن من تحديات وصراعات ومشكلات يحتاج منا لوقفة حقيقية للعودة لجادة الصواب؛ لإعادة بناء ما أفسدته النظم الاستبدادية على مرِّ السنين، وفق المنهج النبوي الكريم.
  الحُرِّيَّة   لقد كفل الإسلام الحرية بكل معانيها منذ يومه الأول، فالأحرار هم من يبنون الحضارات، فلقد حرَّر الإسلام العقول والنفوس قبل تحريره الأبدان، فانطلقت الطاقات الكامنة في النفوس نحو البناء والنهضة الحقيقية.
  لقد خلق الله سبحانه الإنسان حرًّا، وهذا هو الأصل، وهو ما عبر عنه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: " متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا؟ !"، ولقد كان هذا مع خلق الإنسان قبل البلوغ والتكليف ليكون الاختيار بعد الحرية وليس قبلها، كما أعطى الإنسان إرادة ومشيئة واختيارًا ليحاسب عليها بعد ذلك.
  جاء الإسلام فأقرَّ أهم الحريات التي يبحث عنها البشر في زمن كان الناس فيه مستعبدين: فكريًّا، وسياسيًّا، واجتماعيًّا، ودينيًّا، واقتصاديًّا، جاء فأقر الحرية: حرية الاعتقاد، وحرية الفكر، وحرية القول، والنقد.
  فأقرَّ حرية الاعتقاد، فلم يكن أبدًا يُكْرِهَ الناس على اعتناقه، أو اعتناق سواه من الأديان، وأعلن في ذلك قول الله عز وجل: ( ولَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ) (يونس: 99).
  وكفل الإسلام حرية التفكير، وحرية العلم، وحرية الرأي والقول والنقد، حرية الاعتقاد وممارسة الشعائر الدينية لأتباع الرسالات السماوية، فسمحت هذه الحريات بقيام النهضات الحقيقية، كما أقرَّ الإسلام حرية التصرف بما لا يؤذي أحدًا، وفق القاعدة العامة في الإسلام: (لا ضَرَر ولا ضِرَار)، فأي حرية ترتَّب عليها ضرر لنفسك، أو ضرار لغيرك، يجب أن تُمنع، ويجب أن تقيد في هذه الحالة فإن حريتك تنتهي حيث تبدأ حرية غيرك، ليسود الوئام لنتفرغ لبناء الأمجاد الحقيقية.
  الوحدة   فقوتنا في وحدتنا وتماسكنا وضعفنا في تفرقنا وتشرذمنا (واعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا ولا تَفَرَّقُوا واذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إخْوَانًا) (آل عمران:103)، وإن أهم خصائص هذه الأمة أنها أمة واحدة، قال الله عز وجل: ( وَإِنَّ هَـذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وٰحِدَةً وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فَٱتَّقُونِ) (المؤمنون:52).
  ولله در القائل:   كونوا جميعا يا بني إذا اعترى       خطب ولا تتفرقوا آحادًا   تأبى الرماح إذا اجتمعن تكسرًا     وإذا افترقن تكسرت آحادًا   فعلينا بالاتحاد والتماسك لبناء أوطاننا ولنغلِّب المصالح العليا على المصالح الشخصية لإعادة بناء ما أفسده الطغاة، وهدمناه بفضل الله، فتفرقنا واختلافنا وتشرذمنا لا يخدم سوى أعداء الأمة ولنتمثل قوله تعالى ( وَأَطِيعُواْٱللَّهَ وَرَسُولَه ُوَلاَ تَنَـٰزَعُواْ فَتَفْشَلُوا ْوَتَذْهَب َرِيحُكُم ْوَٱصْبِرُوا ْإِنَّ اللَّهَ مَعَ ٱلصَّـٰبِرِينَ ) (الأنفال: 46).
  آداب الحوار   إن الغاية من الحوار هي الوصولُ إلى الحق وليس الانتصار للرأي، فالحق هو الغاية المقصودة والضالة المنشودة، وليس الانتصار للرأي ومغالبة الخصوم، ومن الأقوال المشهورة عن الإمام الشافعي رحمه الله قوله: "ما ناظرت أحدًا إلا لم أُبالِ: بيَّن الله الحق على لساني، أو لسانه".
  فإساءة الحوار وعدم المجادلة بالتي هي أحسن تُوغِر الصدور وتفرِّق القلوب وتشتت الطاقات والجهود، فمتى ظهر للمحاور صحةُ قول خصمه، وقوةُ دليله، فيجبُ عليه أن ينقاد للحقِّ ويقبل به، ويُقرّ لخصمه بذلك، بل يشكره على ما بيَّن له من الحق الذي يجب اتباعه، والباطل الذي يجب اجتنابه، لا أن يتعصب لرأيه ويتعصب برأيه وينتصر له وإن كان خطأ، والله عز وجل يحذرنا ( وقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ )(الإسراء: 53) أي أننا إن لم نقل التي هي أحسن فإن الشيطان سينزغ بيننا حتمًا.
  فقه الاختلاف   يُقرِّر القرآن مشروعية الاختلاف وكذلك جدال أهل الكتاب بالتي هي أحسن( ولَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً ولا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ )(هود:118)، فالآية تقرِّر أن مشيئة الله تعالى اقتضت أن يخلق الناس مختلفين، فيجب علينا أن نجعل من الاختلاف نقطة بناء لا مِعْوَل هدم، وأن نجعله اختلاف تنوُّع يُثْرِي الرؤى والأطروحات لا اختلاف تضادَّ يُشتِّت الجهود والطاقات.
  وعلينا احترام الآخر وعدم إساءة الظن به وعدم غيبته وعدم تصيُّد أخطائه، والتعامل معه بموضوعية وإنصاف، وضرورة قبوله والتعامل الجاد والحقيقي معه، فبلادنا تحتاج منا لكل الجهود لبناء ما تهدَّم منها، فكيف سنَبْنِيها وجهودنا مشتَّتة وقلوبنا متفرقة وكل منا يبحث لأخيه عن مزلَّة أو عيب لينْقَضَّ عليه، وليضع كل منا نفسه مكان أخيه؛ لأنه لا يكمل إيمانه إلا إذا أحب لأخيه ما يحب لنفسه.
  العدل   يُعَدُّ العدل من أهم المبادئ الإسلامية التي تقوم عليها النهضة وتتقدم بها الأمم وتحقق بها سعادة الفرد والجماعة ( إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ والإحْسَانِ وإيتَاءِ ذِي القُرْبَى ويَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ والْمُنكَرِ والْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) (النحل:90).
يقول ابن قيم الجوزية: (إن الله سبحانه وتعالى أرسل رسله، وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط، وهو العدل الذي قامت به الأرض والسماوات، فإذا ظهرت إمارات العدل وأسفر وجهه بأي طريق كان، فثَمَّ شرعُ الله ودينه) والعدل مع المؤيدين والمعارضين ( ولا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ) (المائدة: 8).
  والأمة مكلفة بتحقيق العدل في الأرض وأن تبني حياتها كلها على أصول وقواعد العدل حتى تستطيع أن تحيا حياة حرة كريمة، ويحظى كل فرد في ظِلِّها بحريته؛ ليبدع وينتج وينشر الخير بين الناس.
  احترام الإرادة الشعبية   لقد أنهت ثورات الربيع العربي عهود الاستعباد والاستبداد للبلاد والعباد، ونهب ثرواتها، وتزييف إرادتها وانتهى عصر ( مَا أُرِيكُمْ إلا مَا أَرَى ومَا أَهْدِيكُمْ إلا سَبِيلَ الرَّشَادِ ) (غافر: 29)، وأصبحت الكلمة العليا للشعوب، التي أصبحت سيدة قرارها.
  ولقد رسم إمامنا الشهيد حسَن البَنَّا يرحمه الله حدودًا لمكونات النهضة ورفعة الشعوب؛ حيث يقول: "إن تكوين الأمم، وتربية الشعوب، وتحقيق الآمال، ومناصرة المبادئ تحتاج من الأمة التي تحاول هذا أو من الفئة التي تدعو إليه على الأقل إلى قوة نفسية عظيمة تتمثل في عدة أمور: إرادة قوية لا يتطرق إليها ضعف ولا خور، ووفاء ثابت لا يعدو عليه تلوُّن ولا غدر، وتضحية عزيزة لا يَحُول دونها طمع ولا بُخل، ومعرفة بالمبدأ وإيمان به وتقدير له يعصم من الخطأ فيه والانحراف عنه والمساومة عليه والخديعة بغيره".
  لقد رَوَت دماء الشهداء بذور الإرادة الشعبية، فنَمَت شجرة الحرية، وأصبحت عصيةً على الاقتلاع أو الالتفاف عليها أو محاولة الخداع بغيرها، فعلينا جميعًا ألا نستهين بإرادة شعوبنا، وأن ننصاع لها، وأن نتحرك في إطارها، وألا يحاول أي فصيل- مهما اعتقد في نفسه القدرة على مجابهة الشعوب- أن يسبَحَ عكس التيار بمحاولة الالتفاف عليها.
  ولنتنافس جميعًا في كيفية النهوض ببلادنا وتقديم البرامج النافعة، ونتعاون جميعًا في تقدُّمها ورُقيِّها تنافسًا شريفًا، بعيدًا عن التناحر المذموم الذي يوغر الصدور ويعيق التقدم، ولنُر الله تعالى ثم شعوبنا من أنفسنا خيرًا في بيان حُبِّنا العملي لها من خلال الخطوات العملية نحو نهضة حقيقية تُعِيدُنا لمكانتنا المستحقَّة بين الأمم، وقد توافقت جميع الشعوب في كل أنحاء العالم أن تبادل السلطة في الديمقراطية لا بد أن يكون عبر الصناديق، فمن يدعي غير ذلك يناقض نفسه.
  إن إرادة الشعوب هي الغالبة، وهي الأبقى والأقوى بإذن الله عز وجل، فوق كل قوة أو سلطة، فعلى الجميع احترامها وعدم الاستهانة بها لنتقدم ببلادنا نحو الأمام، ولنزيل عنها عناء عشرات السنين من القهر والذلِّ والحرمان.
  الحذر من الشائعات   الحذر الحذر من الشائعات، فهي سلاح فتَّاك يستخدمه الأعداء للنيل من خصومهم، وكان يستخدم قديمًا في الحروب، وبكل أسف يُسْتخدم الآن من بعض المتنافسين سياسيًّا من بعضهم البعض دون إدراك لخطورة الأمر ومردوده السيئ على مسيرة الوطن والمواطن، وتناسى هؤلاء قول ربِّ العزة عز وجل: "مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ" (ق: 18)، وقوله " وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا " (الإسراء: 36).
  إن بعض وسائل الإعلام المقروءة والمرئية والمسموعة، قد جانبها الصواب، فساعدت على إثارة البلبلة والتشكيك والنيل من بعض الشخصيات والهيئات، فنشرت الشائعات والأخبار المكذوبة، والتحاليل المغلوطة، وتعاملت معها على أنها حقيقة مطلقة؛ مما ساعد على تزكية حالة الاحتقان الشديد الذي تحياه أمتنا الآن.
  إن الشائعات تهدم ولا تبني ولا يمكن لأمة ناهضة أن تبني قواعد مجدها على دعائم وأسس الشائعات، وليكن منهجنا قول الله عز وجل " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ " (الحجرات: 6)، فلنحذر من الشائعات وخطورة نشرها أو المساهمة في نشرها (كفى بالمرءِ كَذِبًا أن يُحدِّث َبكل ما سَمِع).
  أيها المسلمون.

أيها الناس أجمعون.

  إن أمتنا الآن في مرحلة نهضة وتحتاج منا جميعًا لتضافر الجهود وتوحيد القوى؛ فلنتحرك جميعًا في اتجاه واحد نحو بناء بلادنا ونهضتها ووحدتها، ولنحرص عليها وعلى أهلها، ولنتسابق في الخيرات لتحقيق التقدم الحقيقي لها، وهذا لن يتحقق إلا بالتحلي بمنظومة الأخلاق والقيم التي أرساها الإسلام في النفوس والتي تُعتبر المنقذ للبشرية كلها حال تطبيقها ذوات نفوسنا وفي واقع حياتنا.
  ( وأَطِيعُوا اللَّهَ ورَسُولَهُ ولا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وتَذْهَبَ رِيحُكُمْ واصْبِرُوا إنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ) (الأنفال:46).
  وصلى اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

  والله أكبر ولله الحمد.
  القاهرة في: 22 من المحرم 1434هـ، الموافق 6 من ديسمبر 2012م.