واجِبُ الوقت.. حَمْل هَمِّ الأُمَّة (رسالة الأسبوع)
رسالة من: أ.د.
محمد بديع- المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا، وبعد.
ضرورة العمل لرفع شأن الأمة: العاملون دائمًا على موعد مع ربهم بالسعي الحثيث لتحقيق أهدافهم السامية، وعلى موعد من ربهم والتأييد والنصرة بالجزاء، ولقد صدقت فيهم حكمة الصادقين: "لكلِّ وقتٍ عَمَل.
ولكلِّ زمنٍ فَرْض"، فهم وحدهم الذين يُحوِّلون النظرية إلى تطبيق، والشعار إلى ممارسة؛ وذلك لأنهم يحملون الإسلام، بقرآنه العظيم وسُنَّة النبي صلى الله عليه وسلم، رائدهم في التنفيذ نداء مخلص: "لا ينبغي لحامل القرآن أن يجهل إذا جَهِل الناس"، ومكانتهم في قوله تعالى: ( لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ويَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ) (البقرة: 143)، وانتماؤهم لأمة أخرجها الله تعالى للناس عامة، وليس لنفسها، يقول تعالى: ( كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وتَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ) (آل عمران: 110)، ومن ثَمّ أوجب الله عز وجل على العاملين المخلصين، والساعين الصادقين، الوقوف أمام أصوات الفساد والكذب، والتصدِّي للمؤامرات الشيطانية التي يقودها إبليس، فكل الآلات مُباحة في شريعة الشيطان، من القتل والفتك والتَّدمير والإهلاك والتخريب، أما الكذب والتدليس واتهام البرآء فحدِّث ولا حرج- إلا من رحم الله- الذين يواجهون الآلات الفاسدة، بأخذ الناس إلى ربهم، وأسوتهم في ذلك الحبيب صلى الله عليه وسلم، عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنما مثلي ومثل الناس كمثل رجل استوقد نارًا، فلما أضاءت ما حوله جعل الفراش وهذه الدَّوابّ التي تقع في النار يَقَعْن فيها، فجعل ينزعهنّ ويغلبنه فيقتحمن فيها، فأنا آخذ بحجزكم عن النار وهم يقتحمون فيها" (رواه مسلم)، والقائل: "مَنْ يُؤْوِينِي؟ مَنْ يَنْصُرُنِي؟ حَتَّى أُبَلِّغَ رِسَالَةَ رَبِّي وَلَهُ الْجَنَّةُ " (رواه الإمام أحمد)، بل انطلق الأُسْوة صلى الله عليه وسلم مشفقًا على غير المسلم قبل المسلم، وكذلك الاهتمام بغير الملتزم أكثر من الملتزم، وأن الأول أولى بالرِّعاية لخطورة حالته بعيدًا عن الله عز وجل رحمة به وشفقة عليه، حتى الشَّاب الذي جاء طالبًا الإذن بالزنى، يرفع النبي صلى الله عليه وسلم من شأنه ويُعلي من إيمانه، ويسلك معه سبيل الحوار الهادئ، حتى أصبح الزنى أبغض الأشياء إلى نفسه، بشهادة الشابّ الذي تحوَّل إلى إنسان كامل التوجُّه والعمل، وهذه مهمة العاملين على الدوام.
ولا يوجد أصعب من حالة قاتل المائة نفس من بني إسرائيل، وأحسن من الفقيه الذي هو أشدُّ على الشيطان من ألف عابد، أَحسَّ بمسئوليته كمُرَبٍّ وداعية عن حالة هذا المتمادي في المعصية عمرًا طويلا، والمُصِرّ على التوبة إصرارًا شديدًا.
بروح الشريعة قبل أحكامها تتقدم الأمة: يقول تعالى: ( وكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ويَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ) (البقرة: 143)، فأبناء الأمة من هذا الباب، يقدِّمون هذه الوسطية- التي هي روح الشريعة- في الفهم والفكر والممارسة والتطبيق، إلى كل العالم اليوم، بالاصطفاف الإسلامي والوطني معًا، وتضييق كل الثغرات كلما لاحَ في الأفق خلاف، والأخذ برفق على من يقوم بتوسيعها، وعدم إهدار الأوقات دون تحقيق حوار جاد، يسلك بالوطن طريقه للاستقرار والأمان، بعيدًا عن التعصُّب الممقوت، والاستعلاء المبغوض، والنَّشوة الكاذبة، والانتقام المشين، بل بالتسامح والعفو والتواضع، وانكسار الجميع أمام ربِّ العزة والكبرياء، يقول تعالى: ( قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا ومَنِ اتَّبَعَنِي.
.
) (يوسف: 108)، وكذلك بتأسيس جيل وطني يُقدِّم مصالح الأمة فوق المصالح الشخصية والحزبية، فالوطن أولاً، ومصر فوق الهامات، فالأمة أبقى من كل شيء، أفرادًا وجماعات وأحزابًا وهيئات، ولنا مثل في المصريّ المؤمن من آل فرعون الذي حمل همَّ الأمة لم يقف موقفًا سلبيًّا عندما يقعد الجميع، في قوله تعالى: (يَا قَوْمِ لَكُمُ المُلْكُ اليَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأَرْضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إن جَاءَنَا) (غافر: من الآية 29).
فالالتفاف حول روح الشريعة، بهذه المعاني، هو واجب الوقت اليوم الذي هو مقياس دقيق لكل فرد في حرارة حبِّه للوطن، والممثَّل في إيمانه بمستقبل مشرق، ويقظته للتحديات، وانتباهه للمكائد، وتصدِّيه للمؤامرات، يقول ابن القيم رحمه الله مُلخِّصًا واجب الوقت في: "إيثار مرضاة الله في ذلك الوقت والحال، والاشتغال بواجب ذلك الوقت ووظيفته ومقتضاه"، فأبناء الأمة يستمدُّون من روح الشريعة روحًا معنوية، وحراكًا اجتماعيًّا، وخريطة واضحة لفقه الأولويات؛ حتى لا يبدأ بمخالفة أسلوب رسول الله صلى الله عليه وسلم " خاطبوا الناس على قدر عقولهم.
أتحبون أن يُكذَّب الله ورسوله "؛ لأن الأسلوب قد يكون مُنفِّرًا وليس مُحبِّبًا، كما قال ربّ العزَّة في حديثه القدسي: " حبِّبوني إلى خَلْقي "؛ لمواجهة حملات التشويش والتشويه التي لا تنقطع، وصدِّ مكائد التضليل والإحباط التي لا تهدأ، ولنا أسوة حسنة في الحبيب صلى الله عليه وسلم بالعمل وعدم إعطاء المخالفين فرصة للهجوم، فالقرآن يقول (ولا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ) (الأنعام: 108)، كما كان ردُّه العملي على حديث الإفك أن شغل المسلمين الذين كانوا سببًا في المشكلة أن ينشغلوا بالعمل، فحملهم على الدوابّ إلى أن بلغ بهم الجهد، فسكتوا عن الكلام واللغو والإفك بالعمل النافع.
واجبات عملية لكل ساعٍ من أبناء الأمة: - يظمأ لكي يروي الناس، ويسهر لكي يناموا، ويجوع لكي يشبعوا، ويتعب حيث يستريحون، ويُقْدِم حيث يُحجمون، عن عليٍّ رضي الله عنه قال: "كنا إذا احمرَّ البأسُ، ولقي القومُ القومَ اتَّقَيْنا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فما يكون منا أحدٌ أدنى من القوم منه"، وعن البراء رضي الله عنه قال: "كنا والله إذا احمرَّ البأس نتَّقي به، وإنّ الشُّجاع منا للذي يحاذي به صلى الله عليه وسلم".
- يُقدِّم نفع الآخرين على نفسه، ويُقدّم خدمتهم على وقته، ومصالحه الشخصية والعالمية، خاصة أن كل فرد مسئول: " كُلُّكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته "، وهذا دَيْدَن الصادق حاكمًا أو محكومًا، تصف فاطمة بنت عبد الملك زوجها أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه فتقول: "كان قد فرَّغ للمسلمين نفسه، ولأمورهم ذهنَه، فكان إذا أمسى مساءً لم يفرغ فيه من حوائج يومه؛ وَصَل يومه بليلته".
- ينشر الوعي والمعرفة بالرِّسالة عند أبناء الأمة، عَبْر كل الرسائل المتاحة؛ ليعرف المسلمون عظمة الإسلام الفكرية، وقدرته على حلِّ مشكلاتهم، الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والأخلاقية والتربوية والعمرانية؛ لكي يتفاعلوا بقناعة في نهضة أوطانهم واستقرارها.
- يُعَرِّف أبناء الأمة بتاريخها المجيد، ويزيح عنهم الإحساس بالنقص الذي ينشره اليائسون، ويُنمِّي الشعور بالمسئولية الذاتية، وعلى لسانه صوت الحق، في قوله تعالى: (وقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ) (غافر: 38).
يقول الشاعر وليد الأعظمي: كُنْ مشعلاً في جناحِ ليلٍ حالكٍ يَـهدي الأنـامَ إلى الهدى ويُبِيـن وانْشَطْ لدِينك لا تَكُنْ مُتكاسـلاً واعمل على تحريك ما هو ساكنُ وختامًا.
لكي نرفع الأمة لا بد من حمل هَمِّ الأمة: فيقف كل منا أمام هذه التساؤلات، ويسمع صوت ضميره؛ لينطلق خادمًا لأمته وحاملاً لدعوته، وناشرًا لرسالته: - ما الهمُّ الذي أحمله؟.
- هل يعتمل همَّ الإسلام في صدري؟.
- هل يعتلج همَّ الدعوة إلى الله بين جنبيّ؟.
- هل أتألم عندما أرى المصائب والنَّكبات تَحُلّ بالأمة؟.
- هل طغت همومي الشخصية لأكون مجرد رقم في تِعداد هذه الأمة؟.
- هل تخرج من عيني دمعة عندما أرى ما حلَّ بأمتنا؟ أم أن هذا لا يحرك فيّ ساكناً؟.
فما علينا اليوم، إلا أن ننطلق نبغي الأجر من الله عز وجل، آخذين بكل أسباب النصر، والله لا يضيع أجر المخلصين، عن جابر رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن بالمدينة أقوامًا ما سِرْتم مسيرًا، ولا قطعتم واديًا إلا كانوا معكم حبسهم العُذْر" (رواه مسلم).
يقول الإمام البَنَّا رحمه الله واصفًا النموذج الذي يُؤدِّي واجب الوقت والذي أسماه فريضة: "إن هذه الفريضة تحتاج منكم نفوسًا مؤمنة وقلوبًا سليمة، فاعملوا على تقوية إيمانكم وسلامة صدوركم، وتحتاج منكم تضحية بالمال والجهود، فاستعدُّوا لذلك فإن ما عندكم ينفد وما عند الله باق، وإن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم جَنَّة عرضها السموات والأرض".
والله أكبر ولله الحمد، وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه أجمعين.
القاهرة في: 5 من ربيع الأول 1434هـ، الموافق 17 من يناير 2013م