بيان من الإخوان المسلمين حول الغلاء والظلم الاجتماعي
بسم الله الرحمن الرحيم ظلَّ النظامُ الحاكمُ يُعطِّل كل مجالاتِ الإصلاح تحت دعوى أولوية الإصلاح الاقتصادي، وبعد خمسة وعشرين عامًا انجاب الظلامُ عن حقيقةٍ مُرَّة، وهي سقوط غالبية الشعب المصري في هوَّةٍ سحيقةٍ من الفقر والعوز والغلاء والبطالة والمرض، وسقوط الدولة في مستنقع الديون الداخلية والخارجية التي بلغت مئات المليارات، والتي سترثها أجيالنا القادمة المنكوبة جيلاً بعد جيل.وما ذلك إلا لاستشراء الفساد غير المسبوق الذي لم تعرفه مصر في العهد الملكي البائد ولا الاشتراكي الفاسد؛ حيث تربَّع الآن على عرش سلطتها مجموعة من رجال الأعمال الذين اقتحموا مجال السياسة فالتحمت الثروة بالسلطة فساد الاستبداد وانتشر الفساد، الذي تمثَّل في الاحتكار ونهب أموال البنوك، وبيع مصانع ومؤسسات القطاع العام والبنوك الحكومية بطريقةٍ تفتقد الأمانة والشفافية، والاستيلاء على أراضي الدولة، والاهتمام بالإنتاج الاستهلاكي وإهمال الإنتاج الإستراتيجي ابتداءً من القمح وضروراتِ الغذاء وانتهاءً بالسلاح وضروراتِ الدفاع، والتلاعب بالبورصة، والإنفاق الترفي السفيه، وكذلك إهمال الخدمات التي يحتاجها عامة الناس، فرأينا العبَّارات الغارقة، والقطارات المحترقة، والمواصلات المهترئة، والطرق المختنقة، والمستشفيات الخاوية من الأجهزة والأدوية، والتعليم المنحدر.
كل هذا الفساد أدَّى إلى عجز مرتباتِ العاملين عن الوفاء بمقومات الحياة الضرورية؛ الأمر الذي دفع البعض منهم إلى ارتكاب جرائم الرشوة والاختلاس والتزوير لمواجهة الارتفاع الجنوني في الأسعار، فتضاعف الفساد، كما أصاب الشرفاء منهم بحالةٍ من الإحباط والاكتئاب، كما قرر علماء الطب النفسي نتيجة العجز عن تلبية احتياجات الأسر والأبناء.
كما أن انتشار البطالة بين الشباب أدَّى إلى حالات الهجرة الجماعية في مغامراتٍ عبر البحر أدَّت بكثيرٍ منهم إلى الغرق، بل إن أعدادًا منهم هاجرت إلى دولة الكيان الصهيوني تخدمها بجهدها وفكرها وتنجب أولادًا سوف يكونون أعداءً لنا في يومٍ من الأيام.
إضافةً إلى انتشار العنوسة، الأمر الذي يُضاعف المشكلات الاجتماعية ويزيد من الفساد الاجتماعي.
كل ذلك أدَّى إلى تآكل الولاء والانتماء للوطن، حتى كتب شاعر كبير قصيدةً باكيةً بعنوان (هذي بلاد لم تعد كبلادي)؛ وذلك لأن الفقر يُولِّد الكفر؛ ولذلك ما أكثر ما استعاذ النبي- صلى الله عليه وسلم- منهما معًا "اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر" .
وما من تقريرٍ أصدرته المنظمات الدولية يتعلق بالشفافية أو تشجيع الاستثمار أو تسهيل الأداء إلا وجاءت مصر في ذيل قائمة الدول، وما من تقريرٍ يتعلق بالفساد والرشوة والبيروقراطية إلا وجاءت مصر في رأس قائمة الدول.
لذلك رأينا في العام المنصرم مئات الإضرابات والاعتصامات شارك فيها الرجال والسيدات، وانتشرت في مختلف المدن ووصلت لقلب القاهرة، واستمرَّ بعضها إلى عشرةِ أيام؛ الأمر الذي يُنذِّر بثورة الجياع التي إن بدأت فلن تُبقي ولن تذر، ولا تزال فئاتٌ أخرى كنا نظنها في قمةِ المجتمع تُهدد بالاعتصام والإضراب مثل الأطباء والقضاة وأساتذة الجامعات؛ لأن الغلاءَ قد أحرق دخولهم، فما بالنا بالموظفين والعمال والفلاحين المطحونين تحت وطأة الفقر من ناحية، والغلاء من ناحيةٍ أخرى.
لذلك فنحن نحذر- بمنتهى الإخلاص- من مغبةِ تجاهل هذه النذر، فالظلم قد تكاثفت سحبه، فلم يعد ظلمًا سياسيًّا فقط يحتكر السلطة ويزوّر الانتخابات والاستفتاءات، ويفرض الطوارئ، ويعتقل الأبرياء، ويصادر الحريات، ويُشرع العزل السياسي، وينشر الاستبداد، ويُحيل السياسيين إلى المحاكماتِ العسكرية، بل أضاف فوقه وإليه الظلم الاجتماعي الذي قسَّم الناس إلى طبقتين: قلة قليلة تملك المليارات من الفساد، وتعيش في بذخٍ وترفٍ يزري بحياة الملوك، وكثرة كاثرة لا تكاد تجد القوت إلا بشقِّ الأنفس.
وقد تعلمنا من دروسِ التاريخ المتواترة ما قرره علماؤنا السابقون (أن الدولة العادلة تبقى ولو كانت كافرةً، والدولة الظالمة تفنى ولو كانت مسلمةً)، وإن كان الإسلام يرفض الظلم ويُحرِّمه ويُحاربه "يا عبادي، إني حرمتُ الظلمَ على نفسي وجعلته بينكم محرمًا، فلا تظالموا" .
كما حكى لنا القرآن الكريم قصص قارون وصاحب الجنتين وأصحاب الجنة، وكيف كانت نهايتهم في الدنيا قبل الآخرة؛ لكي يعتبر مَن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
هذه صيحةُ نذيرٍ نُوجهها إلى أصحابِ السلطة والثروة حتى يتقوا ربهم، ويتخلّوا عن فسادهم واستبدادهم، ويعودوا إلى أحضانِ أهلهم، فدفء العدل والحب أفضل من دفءِ المال والسلطة.
﴿إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾ (هود: من الآية 88).
محمد مهدي عاكف- المرشد العام للإخوان المسلمين القاهرة في: 8 من المحرم 1429هـ الموافق 16 من يناير 2008م