حقوق الإنسان .. الواقع والمأمول
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه،،،
في العاشر من ديسمبر عام ١٩٤٨ وبعد الحرب العالمية الثانية، والتي هلك فيها الملايين من البشر من كافة الأجناس، اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة (الإعلان العالمي لحقوق الإنسان)، والذي ضمن مجموعة واسعة من حقوق الإنسان والحريات الأساسية للبشر دون تمييز بسبب الجنس أو اللون، أو العقيدة، وفي هذا العام يُسلّط الاحتفال بذكرى هذا الإعلان على مبدأ (المساواة)، وما جاء في نص البند الأول على أنه: ”يولد جميع الناس أحرارًا ومتساوين في الكرامة والحقوق. وهم قد وهبوا العقل والوجدان وعليهم أن يعاملوا بعضهم بعضاً بروح الاخاء“.
ونقول للعالم ..
لقد سبق الإسلام هذا الإعلان العالمي بأربعة عشر قرناً من الزمان، حين قرر أن أصل البشر واحد، فالإسلام دين الحق وإثبات الحقوق للناس، قررها وأوجب تطبيقها، وأمر بالعمل بها، وأرسى المساواة التامة بين البشر، وجعلها أساساً لعلاقات الناس فيما بينهم، ومظهراً من مظاهر العدالة الاجتماعية في المجتمعات، قال الله تعالى «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ» (سورة الحجرات الآية ١٣)، فالناس جميعاً من أب واحد، وأم واحدة، وأن أساس إكرام الإنسان وتمايزه فقط هو تقوى الله والعمل الصالح الذي يفيد به الإنسان نفسه والبشرية من حوله، وهدف الخالق في ذلك التعارف والتمازج، والتكامل بينهم.
ونؤكد للأحرار ..
أن المساواة بين البشر في المفهوم الإسلامي تعني التسوية بينهم في حقوقهم بلا تفرقة بين فكر أو رأي أو دين، ومقتضى ذلك كله هو السلم والسلام العام في المجتمعات، وكذلك حق الإنسان في القضاء المتساوي مع الآخرين، ليعيش الناس العدالة دون تمييز، قال -صلى الله عليه وسلم- في خطبته في حجة الوداع: ”لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى أَعْجَمِيٍّ وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ وَلَا لِأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلَّا بِالتَّقْوَى“ (أخرجه أحمد وصححه الألباني)، فالإسلام هنا جعل هدفه الأساسي وغايته النهائية تحرير الإنسان من كل ألوان العبودية.
ونقول لكل صاحب قلب نقي ..
أن مفهوم التمايز والتفاضل انطلق من المنظور الشيطاني المتعالي، منذ أن أمر الله سبحانه وتعالى الملائكة بالسجود لآدم (عليه السلام) فخالف إبليس، فالإنسان هو المخلوق صاحب الروح التي هي من أمر الله، ولكن إبليس رأى نفسه أفضل منه فلم يسجد له، ومن هنا يأتي الاعتداء على حقوق الآخرين بالنظرة المتعالية والمُنقِصة من قيمة الآخر كينونةً وفكراً .. قال تعالى: «وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمّ صَوّرْنَاكُمْ ثُمّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لاَدَمَ فَسَجَدُوَاْ إِلاّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مّنَ السّاجِدِينَ (قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ» (سورة الأعراف الآية ١١).
ونكرر دائماَ ..
الإسلام يدعو دائماً إلى السلم والسلام بين الناس، وإلى إخاء حقيقي بين الأبيض والأسود، والقوي والضعيف، والغني والفقير، والشريف والوضيع، وحتى لا يكون هناك عدوان على الأرض، سواء من طائفة على طائفة، أو جنس على جنس، أو قطر على قطر، أو لون على لون، أو فكر على فكر، عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: ”إن الله أذهب نخوة الجاهلية وتكبرها بابآئها، كلكم لآدم وحواء كطف الصاع بالصاع وإن أكرمكم عند الله أتقاكم“ (أخرجه البيهقي وصححه الألباني).
إننا نرى ..
أن المجتمعات التى تتحدث بالحقوق دون تفعيلها على أرض الواقع، هي أنظمة ظالمة تسعى لتهميش الحقوق الإنسانية الأساسية على حساب ما تكرسه من ديكتاتوريات، تحكم وتستبدل الحقوق بقوانين جائرة وأحكام قاهرة ظالمة.
وليرى العالم ..
أن ما يحدث في مصر وغيرها من الدول الدكتاتورية من انتهاكات في ممارسة الحقوق الإنسانية الأساسية في السجون والمعتقلات لأصحاب الرأي والفكر، ليرمي كل هذه المبادئ العالمية السامية في سلة المهملات على أرض الواقع، ولن تغنى عنهم أبواقهم الإعلامية التي تتغنى بهذه الحقوق ليل نهار وكأنهم يفعلونها، وفي ذلك جرم كبير في تفريغ المعاني والقيم والحقوق من مفهومها، بل ومن مقتضاها.
وليشهد أحرار الإنسانية ..
أن هذه الدكتاتوريات التي تكفر بحقوق الإنسان العالمية من حيث التنفيذ، هي التي تحكم بآلاف أحكام الإعدام الجائرة لمخالفيها في الرأي، بل وتنفذها رغم النداءات الدولية الإنسانية منها والحقوقية، فبأي وجه تتشدق أنها من الدول الموقعة والمفعلة للإعلان العالمي لحقوق الإنسان؟!.
أيها الإخوان المسلمون ..
إن دعوتنا تسعى جاهدة -من عميق فهمها لحكمة الله في خلقه- لإقامة حياة إنسانية أفضل، تقوم على الفضيلة، وتتطهر من الرذيلة، يحل فيها التعاون بدل التناكر، والاخاء مكان العداوة، يسودها التعاون والسلام، بدلا من الصراع والحروب، حياة يتنفس فيها الإنسان -كل بني الإنسان- معاني الحرية، والمساواة، والإخاء، والعزة والكرامة، بدل أن يختنق تحت ضغوط العبودية، والتفرقة العنصرية، والطبقية، والقهر والهوان، وبهذا يتهيأ الإنسان لأداء رسالته الحقيقية في الوجود: عبادة لخالقه تعالى، وعمارة شاملة للكون، عبادةً وعمارةً تتيحان له أن يستمتع بنعم خالقه، وأن يكون باراَ بالإنسانية التي تمثل له أسرةً أكبر، يشده إليها إحساسٌ عميق بوحدة الأصل الإنساني، التي تنشئ رَحِماً موصولة بين جميع بني آدم.
إننا في جماعة "الإخوان المسلمون"، ندعو الناس جميعاً أن نتكاتف في تمتين وتقوية روابط الحقوق الإنسانية العالمية، والدفاع عن كل الحقوق المهدرة، ونقدم أيادينا مشاركين لكل صاحب جهد لتحقيق أهداف وقيم اليوم العالمي لحقوق الإنسان.
«إِنْ أُرِيدُ إِلَّا ٱلْإِصْلَٰحَ مَا ٱسْتَطَعْتُ ۚ وَمَا تَوْفِيقِىٓ إِلَّا بِٱللَّهِ ۚ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ»
والله أكبر ولله الحمد
إبراهيم منير
نائب المرشد العام لجماعة "الإخوان المسلمون" والقائم بالأعمال
الجمعة ١٣ جمادى الأول ١٤٤٣هـ؛ الموافق ١٧ ديسمبر ٢٠٢١م