الموقع الرسمي للإخوان المسلمون

رسالة الأسبوع

رسالة أسبوعية تصدر عن جماعة الإخوان المسلمين

الظلم ظلمات

الظلم ظلمات

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين وخاتم النبيين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين.. 

أما بعد..

فإن حضارة الأمم تقاس بمكانة الإنسان فيها، فالبشر هم صناع الحضارة وهم أغلى عناصرها، والأمم الراقية تنزل الناس منازلهم، فتقدم الأكفاء الصالحين والمبدعين ليقودوا زمام الأمور، ويقتدي الناس بهم، فيستمر التقدم وتزدهر الحضارة.

وعلى العكس من ذلك تماماً، فالكيانات الساقطة يتصدر فيها التافهون والفسدة، يبددون مقدراتها وينهبون ثرواتها، فينحدرون بها إلى مهاوي الهلاك، فلا تلبث أن تختفي من خارطة العالم المتحضر.

وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً: متى الساعة؟ فأجاب "إذا ضُيعت الأمانة فانتظر الساعة" قيل كيف إضاعتها؟ قال "إذا أُسند الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة" رواه البخارى.

وقد ابتليت أمتنا العربية والإسلامية بهذا البلاء الشديد لسنوات طويلة، فتولى زمام الأمور فيها - إلا ما ندر - أسوأ من فيها، فتقدمها التافهون والفاسدون والظلمة، اضطهدوا الصالحين والأكفاء والعلماء والمبدعين، بل طاردوهم بالقتل والإقصاء والسجون والمعتقلات، ومصادرة الأموال والممتلكات وانتهاك الحرمات على طريقة قوم لوط.. «أَخْرِجُوٓاْ ءَالَ لُوطٍۢ مِّن قَرْيَتِكُمْ ۖ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ» (سورة النمل: الآية ٥٦).

وما يحدث في مصر الآن - وغيرها من بلدان الربيع العربي - على مدار ثمان سنوات عجاف، مثال صارخ لهذه الأوضاع المقلوبة… 

عشرات الألوف من قمم المجتمع، أساتذة، معلمون، أطباء، مهندسون، تجار، صالحون، رجال أعمال مميزون، طلاب علم نابهون، فتيات ونساء فضليات، يقبعون الآن في سجون الظالمين، بغير جريرة ولا جريمة، إلا أن الشعب قد اختارهم وانتخبهم لإدارة شؤونه - عبر خمس استحقاقات انتخابية نزيهة، شهدها العالم كله - بعد ثورة مباركة شاركت فيها كل طوائف الشعب للتخلص من زمرة فاسدة، جثمت على صدر الأمة أكثر من ستين عاما. 

لقد بلغ الحقد والتشفي وعقدة الانتقام درجة غير مسبوقة ولا مقبولة، لا تمت للإنسانية أو شرف الخصومة بأدنى صلة، مذابح مروعة للمدنيين العزل، قتلاً وحرقاً وقنصاً، آلاف الأحكام الجائرة بالإعدام والمؤبد والسجن المشدد، ينطق به قضاة مستهترون حاقدون، مختارون سلفاً للتنكيل بالشرفاء، في نظام قضائي مهترئ صار أضحوكة للعالم بأسره، سجون تُبنى في كل ربوع مصر، هي في الحقيقة قبور جماعية للقتل البطيء، لا زيارات، لا طعام، لا شراب، لا دواء، لا رعاية صحية، لا آدمية، إهانة غير متصورة لأهالي المعتقلين، إخفاء قسري بالسنوات الطويلة لآلاف الضحايا لا يعرف مصيرهم للآن.

كل ذلك على مرأى ومشهد من العالم المتحضر!! والدول المتقدمة التي تتشدق بالحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، والتي لم تحرك ساكنا لوقف هذه الانتهاكات غير المسبوقة في تاريخ البشرية.

لقد فجعنا جميعا بظهور الأستاذ الدكتور/ محمود عزت، أستاذ الطب بجامعة الزقازيق، ونائب المرشد العام للإخوان المسلمين والقائم بعمله، بعد 13 شهراً من الحبس الانفرادي البغيض، وقد تغيرت ملامحه وتيبس جلده وانحنى جسمه من المعاملة القاسية بالحبس الانفرادي والحرمان من كل حقوق الإنسان، لا طعام، لا شراب، لا دواء، لا زيارة… 

متهم لا يقابل محاميه - بريء لا يسمع قاضيه - معتقل يلقى له الطعام من فوهة الزنزانة حتى لا يُفتح بابها - حبيسٌ لا يستنشق الهواء ليلاً ولا نهاراً، حتى حينما ينقل للمحكمة تُعصب عيناه حتى لا يرى غير السواد…

أي شريعة للغاب هذه؟! أي ظلم ينال هذه القمة العلمية والأدبية والمجتمعية؟! 

محمود عزت - طالب الطب المتفوق يدخل السجون عام 1965 في الحقبة الناصرية الغاشمة ثم يخرج عام 1974 بعد هلاك الطاغية، يتفوق مرة ثانية ويتخرج ويعين بالجامعة حتى يصير أستاذاً بها، يعمل في الطب الخيري فيؤسس أكثر من ثلاثين مستشفى خيرياً لعلاج الفقراء ومتوسطي الحال في معظم محافظات مصر.

يُعتقل ويسجن عسكرياً أيام حسني مبارك، يُصر على طريق الحق والعدل والحرية حتى تقوم ثورة 25 يناير 2011، ليتحرر الشعب المصري، ولكن لسنة واحدة، استكثرها علينا أعداء الحرية والحياة، حتى كان الانقلاب الدموي الغاشم عام 2013.

ورغم هذا الظلم البغيض، ظل الدكتور محمود عزت "صمام الأمان" للوطن كله، حمى البلاد من شر الاحتراب الأهلي التي هددت به (كاثرين أشتون) - المفوضية الأوروبية - الرئيس الشرعي لمصر الدكتور محمد مرسي، حتى خيرته بين مصير الجزائر (في العشرية السوداء) أو مصير سوريا (في الهلاك والدمار).

لقد أصر الدكتور محمود عزت - من موقعه كنائب للمرشد العام وقائم بعمله على منهج النضال السلمي - رغم الاستفزازات البشعة التي يقوم بها النظام حتى لا يجر البلاد إلى ما لا يحمد عقباه، فهل هكذا تكون النتيجة؟ 

قتل ممنهج بطيء، وإهانة غير مقبولة لرمز من رموز الوطن في العلم والأدب والخلق وفعل الخير في كل المجالات النافعة للمجتمع.

رغم كل هذا البلاء، فنحن صامدون على الطريق لن نغير ولن نبدل، محتسبين كل ما نلقاه عند الله تعالى «وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَىٰ مَآ ءَاذَيْتُمُونَا ۚ وَعَلَى ٱللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ٱلْمُتَوَكِّلُونَ» (سورة إبراهيم: الآية ١٢).

ويوماً ما - لعله يكون قريباً بإذن الله - ستعرف الشعوب الفرق بين من يحرصون عليها ويصونون دماءها وأعراضها ومقدراتها، ومن يستبيحون ذلك كله لحب التسلط وفرض السيطرة بالباطل على مقدرات الشعوب، وتدمير حاضرها ومستقبلها.

ولقد أخبرنا الله تعالى…  وعلمتنا الحياة أن عاقبة الظلم وخيمة، في الدنيا قبل الآخرة، وأن الله تعالى "يُملي للظالم حتى إذا أخذه لم يُفلته" وقد أخبر المعصوم صلى الله عليه سلم أن "الظلم ظلمات يوم القيامة" غير أن العقاب لا ينزل على الظالم وحده، ولكن على كل من أعان عليه، أو رضي به، أو سكت عنه.

إننا نهيب بالعالم المتحضر، حكومات وشعوباً - أن تقف أمام هذا الظلم البيّن والانتهاك الواضح لكل حقوق الإنسان. 

ونهيب بالشعوب المظلومة أن تقف أمام هذا الظلم القاتل فلأن نموت شرفاء صامدين خير من أن نعيش جبناء خانعين. 

أما أنتم أيها الصابرون المحتسبون، الواقعون تحت الحديد والنار، ثقوا بأن النصر قادم لا محالة وأن للكون إلهاً قادراً منتقماً جبارا «إِذَآ أَرَادَ شَيْـًٔا أَن يَقُولَ لَهُۥ كُن فَيَكُونُ» ولكن «كُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ»، فلنرتفع جميعاً إلى مستوى المحنة، ولنعتصم بحبل الله جميعاً، ولنتمسك بإخوتنا ومحبتنا ووحدة صفنا، حتى نكون أهلاً لنصر قريب عاجل بإذن الله.

«وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ* بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَآءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ* وَعْدَ اللَّهِ لاَ يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ» (سورة الروم: الآية )٤. 

 

أخوكم

إبراهيم منير

نائب المرشد العام لجماعة "الإخوان المسلمون" والقائم بالأعمال

الجمعة ٢٧ جمادى الأول ١٤٤٣ ه

٣١ ديسمبر ٢٠٢١ م