الموقع الرسمي للإخوان المسلمون

رسالة الأسبوع

رسالة أسبوعية تصدر عن جماعة الإخوان المسلمين

وفي ذكرى استشهاد الإمام البنا وقفات

وفي ذكرى استشهاد الإمام البنا وقفات

بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ومن والاه.. وبعد..

تمر في هذه الأيام ذكرى استشهاد الإمام المجدد حسن البنا ليلة 12 فبراير 1949م .. ولم يكن قتله عدوانًا على شخصه، بقدر ما كان محاولة لقتل المشروع الذي يحمله، والذي نذر حياته له - وهو إعادة مجد الإسلام ودولته وحضارته، في صياغته الفكرية التجديدية الوسطية المعتدلة، وفي إطاره الحركي بتأسيسه جماعة الإخوان المسلمين- ومحاولة لمصادرة حق شعوبنا في اختيار المنهج الرباني الذي تراه سبيلها للانعتاق من التخلف والتبعية، ومن الاستبداد والفساد.. والانطلاق لاستعادة مكانتها التي أرادها الله لها أن جعلها (خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ)، سورة آل عمران الآية 110.

لقد اجتمع سفراء الدول الاستعمارية في فايد في نوفمبر 1948م ليتخذوا قرارهم بالسعي لحل جماعة الإخوان المسلمين، ولم يتأخر وكلاء الاستعمار من الساسة الخانعين عن التنفيذ، فصدر قرار حل الجماعة، ومصادرة مؤسساتها وممتلكاتها، وحظر جميع نشاطاتها، في 8 ديسمبر 1948م.

ورغم اعتقال جميع أفرادها تركوا حسن البنا وحده؛ بعد أن جردوه من كل أسباب الحماية، ليسهل لهم اغتياله في ليل القاهرة وفي واحد من أكبر شوارعها وميادينها، ولم تكن الرصاصات التي أطلقت على جسده قاتلة، فتركوه ينزف دمه، حتى فاضت روحه الطاهرة إلى بارئها، تاركة وراءها حسرات المصلحين الذين رجوا الخلاص، وعقدوا الآمال على الرجل وجماعته، فهتف الزعيم المغربي الأمير عبد الكريم الخطابي قائلاً: " ويح مصر وإخوتي أهل مصر مما يستقبلون جرّاء ما اقترفوا، فقد سفكوا دم وليّ من أولياء الله!! ترى أين يكون الأولياء إن لم يكن منهم، بل في غُرَّتهم حسن البنا الذي لم يكن في المسلمين مثله !".. 

وما قصد الرجل مصر وأهلها، بل قصد المستبدين بأمرها من زعمائها. أما مصر فقد اتشحت بالحزن النبيل، وارتعب حكامها من هول صنيعهم، فحالوا بين الرجل ومن يشيع جثمانه، ويحمل نعشه، فحملته النساء إلى قبره، ولم يستطع النفاذ من الحصار المضروب على مشيعيه إلا الزعيم القبطي مكرم عبيد. 

أما أهل مصر فعبر عن مشاعرهم شيخ الجامع الأزهر الشيخ محمد مصطفى المراغي حين وصف الإمام بأنه "رجل مسلم غيور على دينه، يفهم الوسط الذي يعيش فيه، ويعرف مواضع الداء في جسم الأمة الإسلامية، ويفقه أسرار الإسلام"، وقال الشيخ حسنين مخلوف، مفتي الديار المصرية في الأربعينيات عنه إنه "من أعظم الشخصيات الإسلامية في هذا العصر، بل هو الزعيم الإسلامي الذي جاهد في الله حق الجهاد، واتخذ لدعوة الحق منهاجًا صالحًا وسبيلاً واضحًا استمده من القرآن والسنة النبوية ومن روح التشريع الإسلامي، وقام بتنفيذه بحكمةٍ وسدادٍ وصبرٍ وعزم...". 

وفي هذه الذكرى بعد مرور 73 سنة ما زال المشروع الفكري لحسن البنا يمثل الأمل لملايين المسلمين الذين آمنوا به وحملوه، على امتداد العالم.. وما أتيحت للأمة حرية الاختيار – كما حدث في ثورات الربيع العربي- إلا اختارت نهج الإسلام، واصطفت خلف رجاله، وما تمكن أعداؤهم منهم إلا بالقمع والانقلابات العسكرية واستدعاء الاستعمار الجديد والقديم في صوره الكالحة.

وما كان اغتيال الإمام البنا ومحاربة جماعته إلا وسيلة لجأت إليها الدول الكبرى المتحكمة في مصائر الشعوب كي تهيئ الساحة العربية والإسلامية ليستعلي هؤلاء التابعون لهم، وتخضع الشعوب بالقهر للنظم العسكرية الفاجرة التي تفسح الطريق للكيان الصهيوني، وليستمر الاستعمار الغربي في أوجه جديدة: فكرية وسياسية واقتصادية.. وأخيرًا إعادة استدعائه بصورته العسكرية الفجة كما وجدنا في العراق واليمن وسورية؟

ويتساءل كثيرون عن أسباب بقاء المشروع الإسلامي الذي حدد الإمام البنا ملامحه، وحملته جماعته بعد مضي ما يزيد عن تسعين سنة؟؟ فنقول إن جماع تلك الأسباب يتلخص في:

إسلامية ذلك المشروع

 وقد تعهد الله تعالى بحفظ إسلامه ونصرة دينه وخلود دعوته، وإن طالت الطريق بأصحابه، وأحاطت بهم الخطوب والبلايا، قال تعالى: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ ﴿2﴾ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ۖ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ﴿3﴾، سورة العنكبوت الآية 2 و 3. 

ويقول الإمام الشهيد مخاطبا الأمة: "نحن أيها الناس- ولا فخر- أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحملة رايته من بعده، ورافعو لوائه كما رفعوه، وناشرو منهاجه كما نشروه، وحافظو قرآنه كما حفظوه، والمبشرون بدعوته كما بشروا، ورحمة الله للعالمين"... "وليست دعوة الإخوان بدعًا في الدعوات، فهي صدى من الدعوة الأولى يدوِّي في قلوب هؤلاء المؤمنين، ويتردَّد على ألسنتهم، ويحاولون أن يقذفوا به إيمانًا في قلوب الأمة المسلمة؛ ليظهر عملاً في تصرفاتها ".

شمول دعوته

وامتازت دعوته بالشمول لجوانب الإسلام، في زمن غابت فيه حقائق الدين عند كثير من الناس، وزالت الخلافة المعبرة عن المضمون السياسي للإسلام، واستأثرت قوى الغرب بخيرات الأمة المهيضة، وتقاسمت بلادها، واستشرى الفساد الأخلاقي، وتعالت صيحات المستغربين.. فيقول رحمه الله "الإسلام عقيدة وعبادة، ووطن وجنسية، ودين ودولة، وروحانية وعمل، ومصحف وسيف"، ويصف جماعته قائلاً: "نحن دعوة سلفية، وطريقة سنية، وحقيقة صوفية، وهيئة سياسية، وجماعة رياضية، ورابطة علمية ثقافية، وشركة اقتصادية، وفكرة اجتماعية...".

ضرورة التنظيم

 فأسس جماعة الإخوان المسلمين، لتلم شعث الداعين إلى الإصلاح، وتنظم جهودهم، وتخطط لتحقيق غاياتهم، فيقول رحمه الله: " إن طريقكم هذا مرسومة خطواته، موضوعة حدوده. ولست مخالفاً هذه الحدود التي اقتنعت كل الاقتناع بأنها أسلم طريق للوصول".. 

فكان من الضروري أن ترتفع للمؤمنين راية تجمعهم، بعد القضاء على الخلافة بأربع سنوات، لتعالج الغثائية التي ضربت المسلمين فأضعفت قواهم، وأطمعت فيهم أعداءهم، كما حذر نبينا الكريم صلوات الله عليه حين قال: " يوشك أن تداعى عليكم الأمم من كل أفق كما تداعى الأكلة على قصعتها، قلنا: يا رسول الله أمن قلة بنا يومئذ؟ قال: أنتم يومئذ كثير، ولكن تكونون غثاء كغثاء السيل، ينتزع المهابة من قلوب عدوكم، ويجعل في قلوبكم الوهن، قلنا: وما الوهن؟ قال: حب الحياة وكراهية الموت"، رواه أبو داود وأحمد.

شعبية الحركة

 فلم يكن الإمام البنا ولا أصحابه يومًا منعزلين عن جماهير أمتهم، كما تصنع بعض النخب من العلماء أو التجمعات، تشهد على ذلك ثلاثة آلاف قرية ذهب إليها الإمام داعيًا وهاديًا، وتقر به تلك المعاهد العلمية، والمشافي الطبية، والجمعيات الخيرية، والمؤسسات الدعوية، وتدل عليه منابر المساجد، واجتماعات الساسة، ومجالسهم النيابية والتشريعية، وساحات الجهاد والشرف في فلسطين وغيرها، كما تشهد به ظلمة زنازين القهر، وسجون الظالمين التي آثر الإخوان المسلمون أن يقضوا فيها أعمارهم، وتزهق فيها أرواحهم؛ بدل أن يُدخلوا بلادهم في فتن الاقتتال الأهلي، والاحتراب الداخلي.

وكم كان إمامنا الشهيد يردد في خطبه ومقالاته قائلاً: " و نحب أن يعلم قومنا أنهم احب إلينا من أنفسنا، و أنه حبيب إلى هذه النفوس أن تذهب فداءً لعزتهم إن كان فيها الفداء، وأن تزهق ثمنًا لمجدهم و كرامتهم و دينهم و آمالهم إن كان فيها الغَناء، .. و إنه لعزيز علينا - جد عزيز- أن نرى ما يحيط بقومنا ثم نستسلم للذل، أو نرضى بالهوان، أو نستكين لليأس، فنحن نعمل للناس في سبيل الله أكثر مما نعمل لأنفسنا، فنحن لكم؛ لا لغيركم أيها الأحباب ، و لن نكون عليكم في يوم من الأيام".

اعتماد التربية

 وسيلة لتعميق الإيمان، وترسيخ القناعات، وتوطين النفوس على تحمل مشاق الطريق، ومواجهة حتمية الابتلاء.. وهي تربية متكاملة تهتم بالإنسان عقلاً وقلبًا، وروحًا وبدنًا، وخلقًا وسلوكًا.. تربية وسطية من غير علو ولا شطط، تربية أنقذ الله بها آلاف المسلمين من حبائل شياطين الأنس والجن، وحشد بها آلاف المسلمين صفًا مرصوصًا يعرفون غاياتهم، ويزحفون إليها.. ويصبرون على لأواء الكروب والمحن، ويتقدمون الصفوف بين نوابغ الأمة وعلمائها.

وهي بعد ذلك تربية أبقت جذوة الحق التي تحملها دعوته، وأبقت جماعته، رغم شدة الابتلاء، وتعاقب المحن..

النزعة العملية

 والابتعاد عن الجدال، وتضييع الأوقات فيما لا نفع فيه.. وكثيرًا ما كان الإمام رحمه الله يخاطب أصحابه وتلاميذه سائلاً ومنبهًا: هل نحن قوم عمليون؟ وهو القائل يخاطبهم: "إن ميدان القول غير ميدان الخيال ، وميدان العمل غير ميدان القول ، وميدان الجهاد غير ميدان العمل ، وميدان الجهاد الحق غير ميدان الجهاد الخاطئ" .. وكان يضرب المثل بفعله، ويعطي القدوة بنفسه، فشيد ذلك البناء العظيم، وربى هذه الجموع الغفيرة، وترك تلك الآثار الخالدة، ثم مضى إلى الله شهيدًا كما أحب، وهو بعد في الثانية والأربعين من عمره المبارك.

عالمية الدعوة

 فقد توجه الإمام رحمه الله بدعوته إلى داخل مصر وخارجها، وأسس قسم الاتصال بالعالم الخارجي في فترة باكرة من عمر جماعته، فانتشر نورها في آفاق الأرض، تعبيرًا عن عالمية هذا الدين، ورغبته في هداية الناس أجمعين، وهو القائل: "الناس لآدم، فهم إخوان، فعليهم أن يتعاونوا، وأن يسالم بعضهم بعضًا، ويرحم بعضهم بعضًا، ويدل بعضهم بعضًا على الخير، والتفاضل بالأعمال، فعليهم أن يجتهدوا كل من ناحيته حتى ترقى الإنسانية".

لقد لقيت دعوة الإخوان المسلمين ومشروع الإمام البنا من التشويه ما لا يخفى على أحد، وما تكالبت عليه أجهزة ومؤسسات ونظم، ومن حق هذه الدعوة على العالمين أن يتعرفوا على حقيقتها كما عرضها الإمام المؤسس، دعوة وسطية متوازنة.. تنشد الخير لأمتها وللناس أجمعين، تحفظ للناس حقوقهم وكرامتهم ، وتنادي بين الناس بنداءات العدل والهداية والسلام.

إن دعوة هذه سماتها؛ وجماعة هذا مؤسسها ورائدها؛ حق على أبنائها أن يدركوا عظيم قدْرها وقدَرها، وأن يستمسكوا بمبادئها، ويحفظوا بنيانها، ويعتزوا بمسيرتها، وأن يدركوا أن اعتزازهم بهذه الدعوة لا يعني أبدًا أنها معصومة من الخطأ، بل هي جماعة بشرية، تجري عليها سنن الكون والمجتمعات، تصيب وتخطئ، وتنهض وتكبو، ولا تستنكف أن تراجع خطواتها، وتصحح مساراتها حين يستبين لها ما يوجب المراجعة والتصحيح.. لكنها توقن أنها للإسلام قامت، وأن الله تعالى لن يضيع جهودًا أخلصت له، وأرواحًا أزهقت في سبيل رفعة دينه.. إننا نرى النصر قريبًا حين يستبعد آخرون مجيئه، أو يستطيلون أمده، لأننا على يقين من موعود الله لنا (كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي ۚ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ)، سورة المجادلة الآية 21.

 

أخوكم

 إبراهيم منير

نائب المرشد العام لجماعة "الإخوان المسلمون" والقائم بالأعمال

الجمعة ١٠ رجب ١٤٤٣هـ؛ الموافق ١١ فبراير ٢٠٢٢م