الإسراء والمعراج .. عطايا الله للأمة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه ...
﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾. سورة الإسراء الآية 1.
تمر علينا ذكرى الإسراء والمعراج وأمتنا المسلمة لا زالت (إلا ما رَحِم ربي) في بحورٍ من الحيرة .. رغم ما أفاض الله عليها بعطايا من السماء ترفع قيمتها بين الأمم في الأرض ... وستبقى هذه الحادثة نبراساً للأمة إن أرادت نهضةً تعيد لها مجدها .. وتأخذ بها حقها السليب.
بعد عشرة أعوام من بدء النبي صلى الله عليه وسلم دعوة البشر إلى معرفة ربهم .. والسمو بأرواحهم .. قُوبل بعنادٍ وتكذيب، وتكبر وتعذيب .. ملأ الحزن قلب النبي الإنسان صلى الله عليه وسلم .. بموت الرفيقة الحنون .. وعمه المدافع الشفوق، وإن مات على غير المعتقد .. فاشتد بموتهما الاستضعاف وزادت المحن .. وازداد قلب النبي صلى الله عليه وسلم تألماً .. وجسده الشريف ناله الأذى قبل وبعد عودته من الطائف .. وهكذا الدعاة في كل زمان ومكان، يعلمون ويعملون، ويصمدون رغم ألم القلوب ومعاناة الأجساد .. ﴿فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا﴾. سورة فاطر الآية 43.
إن المؤمن صاحب القلب النقي .. والعقل الواعي .. والقريب إلى ربه .. يعلم أن رحم المحنة يحمل جنين الأمل .. يكبر ويتغذى من شدة المحن .. وينبض من ألم القلوب .. لكن وقت ميلاده آت لا ريب .. فاليقين في ماعند صاحب الأمر نصر نفسي للإنسان .. وقوة داعمة للعطاء والتضحية .. ويتحقق بذلك الوعد الإلهي بالنصر بعد الاستضعاف ليكون راية الصابرين الصامدين .. ﴿وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾. سورة الروم الآيتان 4 - 5.
ما أشبه الليلة بالبارحة .. أبناء الأمة وأصحاب العقيدة يتحملون كل صنوف العداوات .. بين اعتقال، وقتل، واختطاف، وتشريد، ونفي للدعاة .. وكرهٍ واحتقارٍ لرموز عقيدية لهم .. فنرى حيناً طرد الفتيات المحجبات من المؤسسات والمعاهد في أحد الدول، ويساومونهن بين خلع الحجاب، أو استمرار المنع، وبين الطرد من الوطن .. وحيناً نرى احتجاجاتٍ على المآذن في بعض الدول .. ونعايش دولًا تدَّعي الحرية تُضيِّق على مواطنين مسلمين بنزع أولادهم من أحضانهم تحت مسميات قانونية، لتشكيل قلوب ووعي الأولاد بعيدا عن أسرهم .. بل زاد الأمر على الأمة أن يخرج عليها من أتباع أهل العداوة، وممن تربوا على موائدهم، ويحملون أسماءً من أسمائنا، ويتكلمون بألسنتنا .. لا هَمَّ لهم إلا التشكيك في ثوابت العقيدة والقيم .. وكأن حالنا كحال النبي محمد صلى الله عليه وسلم في عام الحزن.. قبل أن تتجلى آيات الله لأهل الله في رحلة الإسراء والمعراج .. ﴿وَللهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾ سورة المنافقون الآية 8.
كان الإسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى تَرْبيتاً على روح وقلب النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه اطمئناناً وتقوية .. وكذلك إيذانا للنبي وللأمة بالتحرك لاستلام مقاليد قيادة الإنسانية .. ومن هنا عرف العدو قبل الصديق أن للأمر ما بعده .. فصَدَّق من صَدَق .. وحاد عنه من طغى وتكبر .. وحار فيه من في قلبه زيغ .. ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾. سورة العنكبوت الآية 69.
ولمَّا كان المعراج انطلاقاً من الأرض إلى السماء .. صار في إعجازه قوتان .. الأولى: قوة أرضية ثابتة لها رمزيتها وقدسيتها في العقيدة والمكان .. فكان المسجد الأقصى والأرض المباركة حوله .. والثانية: قوة نفسية، وقيادة إيمانية، وتشريع رباني .. فكانت الصلاة .. والتي تجلت في استباقه بإمامة النبي صلى الله عليه وسلم للأنبياء نيابة عن أقوامهم وأممهم، وانتهت بفرضيتها خمس مرات في اليوم والليلة في معراج دائم بين العبد وربه.
لقد كان بيت المقدس في رحلة المعراج نقطة الارتكاز القوية لصعود روح وجسد وإنسانية محمد صلى الله عليه وسلم نيابة عن كل البشر .. فارتقاء الإنسانية قائم ما دام هذا الدين في النفوس منطلَقاً لعقيدة الاستسلام لله وحده.
ونزلت سورة الإسراء بما يُقوِّي العزائم ويُحيِّي القلوب .. تشرح للأمة موقفها من المسجد الأقصى في أولها .. ومن بني إسرائيل بقية السورة .. وتؤكد أن المعركة قادمة .. وتحدد من سيكون المنتصر .. ﴿فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا﴾ سورة الإسراء الآية 7 .. حتى سماها جمهور العلماء سورة بني إسرائيل.
كان تحرير بيت المقدس الأول بعد معركة حطين بقيادة صلاح الدين الأيوبي بنحو شهرين .. ليدخل صلاح الدين القدس يوم ذكرى الإسراء والمعراج الجمعة 27 رجب سنة 583 هـ، الموافق فيه 2 أكتوبر سنة 1187م .. ويصلى أول جمعة بعد التحرير في المسجد الأقصى .. بعد 91 عاماً من الاحتلال .. وإنها لبشرى للمؤمنين ... وإن غداً لناظره قريب.
ستظل رحلة الإسراء والمعراج كما كتب الإمام الشهيد المؤسس حسن البنا -رحمه الله- عنها "مادة أساسية في منهاج التربية الإلهية، وذلك أن الله تعالى أعد رسوله الكريم ليكون سيد المربّين والمعلّمين، فلابد أن يكون بمنزلة من العلم تفوق أيَّ منزلة سواها من منازل البشر؛ ولهذا طاف الله به السموات ليكون إيمانُه رؤيةً ومشاهدةً، وليس إيمانًا نظريًا، وهناك حكمة أخرى فيها سموّ القدر وجلال المنزلة، فالحق تبارك وتعالى قد فرض الصلاة على المسلمين ليلة الإسراء والمعراج، ولم يشأ فرضها عن طريق الوحي كغيرها من الفرائض، وإنما استدعى نبيه الكريم؛ ليبين للنَّاس أن الصلاة جليلة القدر، عظيمة المكانة، وأنها مادة أساسية في منهاج التربية الإسلامية، فهي نظافة ونشاط وصحة وعلم وأخلاق"..
كانت معجزة الإسراء والمعراج تحمل عطايا الله للمستضعفين ..
أكدت أن النصر القادم المحاط باليقين قاب قوسين أو أدني من المؤمنين إن آمنوا وعملوا ..
أعلنت استلام أمة محمد مقاليد قيادة العالم للارتقاء بنفوس البشر جميعاً نحو الله سبحانه وتعالى ..
ربطت بين السماء والأرض برباط خمس صلوات في اليوم والليلة في صلة مباشرة بين العبد وربه ...
وثَّقت قدسية بيت المقدس في عقيدة الإسلام .. وجعلت النفوس والأرواح أثماناً لا تذكر في الدفاع عنه وإبقاءه حراً تهوي إليه قلوب البشر ..
وضعت قانونًا للمؤمنين العاملين .. أن هناك منحًا ستأتي من رحم المحن .. فقط اصبروا وصابروا. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾. سورة آل عمران الآية 200.
أيها الإخوان ..
جاءتكم ذكرى الإسراء والمعراج فكونوا على يقين يماثل يقين نبيكم صلى الله عليه وسلم في النصر والتمكين ..
انفضوا غبار المحن عنكم .. وابحثوا عن المنح التي أرسلها الله لكم فيها .. فزيدوا من نشاطكم .. وافتحوا قلوب الناس بجميل صنيعكم .. وقوة تمسككم بدينكم .. وبوضوح قدوتكم في أعمالكم .. فأنتم رسل رسول الله بين الناس ..
قوموا إلى محاريب العبادة .. فمنها يبدأ المسير إلى الله .. وفيها ينتهي .. فما هُزمت أمة عرفت طريق مساجدها ..
ألحوا على الله أن يعرج بقلوبكم وأرواحكم إليه .. فترتقي نفوسكم وإنسانيتكم .. ويمن الله عليكم من نعمه ما يخفف عنكم شقاء الطريق .. ويسعد قلوبكم بحرية إخوانكم من معتقلات الظالمين .. فتعملوا معا في طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم ..
﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ۚ وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ سورة النور الآية 55.
والله أكبر ولله الحمد ..
جماعة "الإخوان المسلمون"
الجمعة ٢٤ رجب ١٤٤٣ هجرية
الموافق ٢٥ فبراير ٢٠٢٢ ميلادية