رمضان شهر انتصارات الأمة
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ومن والاه.. وبعد..
فما زالت فيوضات شهر رمضان تتنزل بردًا وسلامًا، ونورًا وبركة على المؤمنين، ومنها ذكريات النصر المبين الذي تكرر مرات في شهر الصبر والجهاد، تبصرة في زمن الزيف، وتثبيتًا في زمن الفتنة والمحنة، وتأكيدًا لوعد الله عز وجل، حيث قال: ﴿ وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴿47﴾ سورة الروم الآية 47، وقال: ﴿كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي ۚ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴿21﴾ سورة المجادلة الآية 21.
ففي السابع عشر من رمضان تطل علينا ذكرى موقعة بدر الكبرى، التي سماها الله تعالى (يوم الفرقان)، حيث فرق فيها بين الحق والباطل، وقد خرج المؤمنون يريدون قافلة قريش وفيها بعض حقهم من مالهم المغصوب، ففاتتهم القافلة، واضطروا للقتال، فكانت المعركة الحاسمة والنصر الباهر، فكان مراد الله لدعوته ودينه، وتقديره؛ خيرًا من مراد أصحاب الدعوة أنفسهم وتقديرهم، ﴿وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ ﴿7﴾ لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ﴿8﴾ سورة الأنفال الآيتان 7 - 8 .. وكانت النتيجة الهائلة، أن انهزمت القوة الباغية التي فاقت المؤمنين عددًا وعدة، وهلك طغاتها، وأكابر مجرميها، وتزلزلت هيبتها، في حين استقرت دولة الإسلام الناشئة، وتعمقت جذورها، وفرضت نفسها قوة لا سبيل لتجاهلها في موازين القوى آنذاك.
وقد استوعب المؤمنون الدرس، فاطمأنت نفوسهم، فتلك دعوة الله، هو يدبر مسيرتها، ويقدر خطوها.
كانوا قلة تعاني الفقر والحاجة، وتقاسي الحصار، وتحيط بها دواعي الخوف من كل جانب، وقد عبر الرسول الكريم عن حالهم وهو يدعو ربه ليلة بدر قائلاً: "اللهم إنهم حُفاةٌ فاحمِلْهم، اللهم! إنهم عُراةٌ فاكْسُهُم، اللهم! إنهم جِياعٌ فأَشْبِعْهُم"، لكن فقرهم وحاجتهم لم تقعد بهم عن طلب العزة لدينهم، والمجد لعقيدتهم، والحياة الكريمة لأمتهم.. وعلموا أن لطلب العزة والكرامة ثمنًا غاليًا لا بد أن يبذلوه، فطابت ببذله نفوسهم..
واستظهَروا بقوة الدعاء، فظل نبينا الكريم صلوات الله عليه يدعو حتى أشفق عليه صاحبه أبو بكر، فقال: يا رسول الله! بعض مناشدتك ربك، فإن الله منجز لك ما وعدك.. وأنزل اللهُ عزَّ وجلَّ قوله: ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ﴿9﴾ سورة الأنفال الآية 9.
فيا أبناء أمتنا هذه هي السبيل التي خطها نبيكم الكريم، ومعه العصبة المؤمنة الصابرة، فلا تقبلوا الدنية في دينكم، ولا تنزلوا على حكم الفسدة والمجرمين، كما أوصاكم الرئيس الشهيد محمد مرسي رحمه الله، وقد آن لأمتنا المستباحة أن تفيق من غفلتها، وأن لطليعتها المؤمنة أن ترتاد لها الطريق، وتقاوم الاستبداد السياسي، والفساد الاجتماعي، والتخلف العلمي، وتجعل بتضحياتها لنفسها موضعًا بين الأقوياء، في عالم لا يحترم الضعفاء ولا المهزومين.
ويا أبناء أمتنا.. "لا تيأسوا فليس اليأس من أخلاق المسلمين، وحقائق اليوم أحلام الأمس، وأحلام اليوم حقائق الغد. ولا زال في الوقت متسع، ولا زالت عناصر السلامة قوية عظيمة في نفوس شعوبكم المؤمنة؛ رغم طغيان مظاهر الفساد، والضعيف لا يظل ضعيفاً طول حياته، والقوي لا تدوم قوته أبد الآبدين.. ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ﴿5﴾ سورة القصص الآية 5 .
وتهب علينا نسائم غزوة فتح مكة في العشرين من رمضان لتؤكد المعاني ذاتها.. فيباغت النبي صلى الله عليه وسلم أهلها في عشرة آلاف مقاتل، بعد أن نقضوا عهدهم معه، فلا يجدون بدًا من التسليم له، فكان أرحم فاتح عرفه التاريخ، دخلها مسبحًا مستغفرًا كما أمره الله تعالى ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ﴿1﴾ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا ﴿2﴾ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ ۚ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا ﴿3﴾ سورة النصر. وجاءه أهل مكة مشفقين من مصيرهم الذي تخوفوا منه بعد طول إيذاء له وللمؤمنين، وتعذيب وقتل وتهجير ومصادرة لأموالهم، فيسألهم: ما تظنون أني فاعل بكم؟ فيقولون: أخ كريم وابن أخ كريم، فيقول في سماحة نبي أدبه ربه، وجعله رحمة للعالمين: اذهبوا، فأنتم الطلقاء!!
ثم مضى يعلي شعار التوحيد الذي لا بد للبشرية التائهة منه، فيحطم الأصنام الشائهة التي عنت لها وجوه الجاهلية الضائعة..
نعم حطمها بعد أن مضت نحو عشرين سنة منذ بعثته، انشغل خلالها ببناء العقيدة، وترقية الإيمان، وتربية النفوس الكبيرة، وتأسيس الدولة الرائدة القدوة.. ثم جاء أوان إزالة الأصنام من ظاهر الحياة بعد أن زالت من داخل الضمائر والعقول التي تشبعت بالتوحيد، وأقامت دولته، واجتهدت لنصرته. ورحم الله مرشدنا الهضيبي حيث قال لإخوانه: "أقيموا دولة الإسلام في قلوبكم تقم على أرضكم"..
إن دروس النصر في رمضان لا تنقضي عجابها، فأطيلوا المقام يا قومنا عندها.. واعتزوا بتاريخكم، وخذوا منه العبرة، واستضيئوا بأنواره، ﴿.. وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴿21﴾ سورة يوسف من الآية 21.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وآله وصحبه.
إبراهيم منير
نائب المرشد العام لجماعة "الإخوان المسلمون" والقائم بالأعمال
الجمعة 14 رمضان 1443 هـ ؛ الموافق ١٥ إبريل 2022 م