في ذكرى استشهاد الأستاذ سيد قطب
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسولنا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه ومن اتبع سنته وهديه إلى يوم الدين.
نحن في جماعة الإخوان المسلمين أصحاب سيد قطب وإخوانه وتلاميذه لا نرى فيه قداسة ولا عصمة تمامًا كما لم نرهما في إمامه حسن البنا، ولا في الذين جاؤوا من بعده .. وإن كنا نسأل الله سبحانه وتعالى من فضله ورحمته أن يرزقهم أجر الشهداء ويلحقنا بهم في الصالحين .. ونشهد شهادة نلقى بها الله – عز وجل – بما علمناه عنهم، أنهم قد بلَّغوا وأدوا وجاهدوا وجادوا بدنياهم في سبيل دعوتهم وفي سبيل ما اعتقدوا أنه الحق .. ولا نملك ولا يملك بشر أن يوفى عباد الله هؤلاء أجرهم الذي نرجوه لهم خالصًا من الله عز وجل.
وحين نكتب عنهم فإننا نكتب للأجيال التي تأتي من بعدنا ولم تعاصرهم .. لنعيد تذكير الناس ببشر مثلنا ليسوا بأنبياءٍ ولا رسل، ولكنهم جاهدوا وأدوا وكانوا أوفياء لدينهم، ثم مضوا إلى آخرتهم التي قدرها الله لهم كما سيمضي كل بني آدم (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ) (الزمر: 30) .. ولتبقى المقارنة للناس قائمةً، بين من أصبحوا تحت التراب فاعلين، ومن هم فوقه غافلين .. لعلها تكون دافعًا وحافزًا لمن له قلب وبصيرة ليختار الطريق، حرصا على ما بعد الحياة الفانية حيث الخلود فلا موت، وكأس الجنة التي لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون .. وأكبر من كل ذلك وأسمى وأعز: رضوان الله ذو الجلال والإكرام فلا سخط بعدها أبدا.
ستون عامًا قضاها في هذه الدنيا منذ أن صرخ صرخته الأولى عندما خرج من بطن أمه وهم يلفون جسده بلفافاتٍ بسيطة هي أول غطاء له في حياته .. إلى أن نطق بالشهادتين والجلادون يلفون حول رقبته حبل المشنقة ليلقى ربه شهيدًا – إن شاء الله – وليغادر هذه الدنيا كما جاءها لا يحمل من متاعها – على جسده المنهك من المرض والسجن والتعذيب وهو في آخر لحظات حياته - سوى ملابس الإعدام الخشنة البسيطة .. حياة غريبة نادرة، غرابة مسيرة صاحبها وندرته في هذه الدنيا .. فقد عاش منها خمسًا وأربعين عامًا تقريبًا، أصبح بعدها ناقدًا أدبيًا متميًزا وكاتبًا لا يختلف حول قيمته اثنان، لا مواجهة له فيها مع أحد تؤدي به إلى حبل المشنقة، إلا ما اعتاده الناس من خلافاتٍ في الرأي تعنف أحيانا وتشتد، وتأتي ناعمة هادئة أحيانًا أخرى ... حتى إذا بلغ أشده وتجاوز هذا العمر، واكتمل عقله وانصقلت تجربته .. حينها بدأ ميلادًا جديدًا مع بداية انتمائه إلى جماعة الإخوان المسلمين عام (1951م – 1371هـ) .. يهب لله فيها ما بقي من عمره خالصا لتكون "خمسة عشر عامَا" (1951-1966) .. قضى منها أحد عشر عامًا في السجن، وبقيت أربعةٌ فقط منها عاشها خارج الأسوار ..
وقد عاداه كثيرون .. وتحالف في سبيل هذا العداء الشرق والغرب والأنظمة التي أعرضت عن شرع الله، ومعها القوى السياسية التي هزّها أن تتعرى أفكارها ومناهجها بفعل كلماته ومنهجه وسلوكه واستعلائه بإيمانه على كل ما تيقن أنه باطل .. وعاداه أيضا أو هاجم فكره، بعض أهل الفكر والعلم ممن اندفع في هذا العداء أو الخصومة – بفعل الموجة العاتية التي هبت على الرجل وفكره – ودون تيقن وتمحيص ..
غرابة حياة شهيدنا سيد قطب أنه وُلد في بيئة متدينة كما وُلد الكثير من الناس، ونشأ قريبا من القرآن الكريم كغيره من جيله حيث كان اهتمام الآباء والأمهات في هذه الفترة متميًزا حريصًا على أن يحفظ الصبيان والفتيات ما استطاعوا من سور القرآن الكريم، ثم سارت حياته أيضا كغيره من طالبي العلم سعيًا إلى طلب الرزق الحلال وإلى الإسهام الجاد في الحياة، ولكنه لم يُدر ظهره لأصوله الأولى وظل قريبًا منها مستمسكًا بها، حتى إذا رَشَدَ واستوى عوده وتميز في علمه وفكره، رآه الناس ورأته (العيون الراصدة) طرازًا جديدًا من الإسلاميين.
وظنت هذه (العيون الراصدة) أنه وهو خريج كلية دار العلوم أقرب إلى (الليبرالية) بمفهومهم منه إلى الإسلام التقليدي الذي يحمله خريجو جامعة الأزهر الشريف كما يظنون .. فحسبوه كبعض من سبقه ممن نشأ نشأته وتبدلت داخل نفسه أولوياته ثم أصبح مع بعض التأثير وزيادة الانبهار بالعالم الجديد شيئًا مختلفًا عن بداياته .. وأملوا أن يكون مع بعض الجهد أقرب إلى المعسكر الآخر منه إلى بلده وقومه وقيمه ودينه .. وهكذا جاء الاهتمام بشهيدنا عليه رحمة الله، ووقع عليه اختيار (العيون الراصدة) في هذا الوقت ليكون ابتعاثه إلى الدنيا الجديدة التي خرجت من الحرب العالمية الثانية بهالةٍ من الأساطير والبريق قهرت مئات الملايين من البشر لتصبح (أمريكا) شعلة الهداية والنور والحضارة والجنة الموعودة على الأرض .. ليسافر إليها سيد قطب وليحظى فيها بعناية خاصة على ظن منهم أن يعود بإسلامٍ جديد، قال عنه بعد ذلك: (إسلام أمريكاني).
ويشاء الله – عز وجل – أن يُريه في هذه الرحلة بنور البصيرة وقلب المؤمن الذي غمره فيض الخير في القرآن ولم يجف، ما لم يره غيره .. فيدرك سبيل كيد الشيطان وسبل تزيينه للباطل، ليعود إلى بلده نظيفًا طاهرًا لم يتدنس ولم يأثم فتأخذه الخطيئة بعيدًا عن الطريق الحق كما عاد غيره .. وليضع علمه وخبرته وتجاربه وقد تجاوز الأربعين من عمره وبلغ رشده في خدمة دينه .. فلا يستطيع أحد أن يتهمه في عقله وقد كان مشهودا له من الجميع بالرجحان .. ولا في علمه وقد ابتعثوه لتميزه عن غيره.
وتأتي قمة الغرابة في أن (العيون الراصدة) أرادتها لغير الله فأبى سبحانه إلا أن تكون لله ولدينه .. بعد أن اكتسب خبرة جديدة وعلمًا جديدًا ورأى بنفسه تهافت الأسطورة وزيف البريق .. وكأننا بهؤلاء يستعيدون ما قاله قوم نبي الله صالح عليه السلام له عندما بعثه الله إلى قومه فجاءهم بالحق بديلًا عن باطلهم (قَالُواْ يَٰصَٰلِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَٰذَآ ۖ أَتَنْهَىٰنَآ أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ ءَابَآؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِى شَكٍّۢ مِّمَّا تَدْعُونَآ إِلَيْهِ مُرِيبٍۢ) (هود: 62).
وشهيدنا بدأ حياته الجديدة -التي شاء الله له أن يبدأها مع نزيف الدم الذي خرج من جسد الإمام حسن البنا- فلم يغب عنه أنها حياة جهاد ومشقة ودماء .. وغواية، وليست غواية شهوات حسية أو مادية يخشى على نفسه منها وقد بلغ الأربعين راشدًا سويًا بفضل الله، بل غواية سلطة و نفوذ .. وقد عرضوها عليه وساوموه عليها .. إما القبول .. وإما السجن أو التشريد .. ولا يتعرض لها إلا ما ندر من الناس.
بقيت شهادة لله يحسب كاتب هذه الكلمات المتواضعة أن عليه واجب الإدلاء بها خاصة بفكر الأستاذ سيد قطب عليه رحمة الله .. وهي أنه وفي عام 1963 ميلادية علمت من أخ لي في الله هو المرحوم إن شاء الله (أحمد توفيق أحمد كنزي) وكان من شعبة عابدين بالقاهرة أثناء زيارة لنا إلى مصحة سجن ليمان طرة اقتنصناها بتيسير الله لرؤية أخ عزيز حبيب صحبناه سنين خلف القضبان هو الأخ (عزت غريب إبراهيم) وكان من شعبة إمبابة – محافظة الجيزة – بعد أن سمعنا أنه قد اشتد عليه مرض السل الذي أصيب به في السجن وأهملت إدارة السجن علاجه وأنه لم يعد هناك أمل في شفائه وأن أيامه في هذه الدنيا أصبحت معدودة .. سمعنا أن الأستاذ سيد يقوم بوضع كتاب عليه اتفاق من الجماعة هو (معالم في الطريق)، وأن على الإخوان جميعا خارج السجون قراءته، ويشاء الله أن يتم نقل الأستاذ سيد نفسه إلى المستشفى الجامعي (قصر العيني) بعد أن اشتد عليه المرض هو أيضًا، وتحايلنا (الأخ أحمد توفيق وكاتب هذه الكلمات) على زيارته كل يوم جمعة أسبوعيًا تقريبًا لنسمع منه ونستفسر طوال إقامته التي استمرت شهورًا .. ولم نسمع منه على الإطلاق أنه يعني بالجاهلية تكفير الناس .. ولم نسمع منه قولًا بكفر الحكام .. ولم نسمع منه أن العزلة الشعورية عن الناس تعني مقاطعتهم والعيش في الكهوف والجبال وتجنب العمل في وظائف المجتمع .. ولكنه كان يركز على إحياء معاني الإيمان في قلوب الأمة .. ويعني بالجاهلية جاهلية السلوك وليست جاهلية الاعتقاد.
ثم كان الإفراج ومشاركته في جنازة الأخ (عزت غريب)، ثم الاعتقال ونظرات الوداع الأخيرة معه في السجن الحربي يوم صدور الأحكام دون إشارة من يد أو كلام .. وهذه شهادة بما علمت ألقى بها الله عز وجل: أني لم أسمع منه خلاف ما قلت.
وحين صعدت روحه إلى خالقها – عز وجل – وهو في زنزانةٍ رطبةٍ ضيقةٍ ظن الفاعلون الآثمون وقتها أنهم قد أنهوا حياة "سيد قطب" نيابة عن كل باطل في الدنيا .. وما قدَّروا أن لحظة إعدامه بين جدرانٍ أربعة صلدة صماء معتمة كانت إيذانًا من الله – عز وجل – بميلاد حياةٍ جديدة للشهيد، وانبعاث طاقةٍ ربانية هائلة لفكره وكتبه .. وسيرة حياته ما قدروها حق قدرها، غطت الأرض كلها من مشرقها إلى مغربها وبلغات عديدة دفعت البشرية كلها إلى الاطلاع عليها والتزود منها .. ليبقى "سيد قطب إبراهيم" حيًا نافعًا فاعلًا بين الناس إلى ما شاء الله .. وتبقى جماعته التي أعطاها فكره وعمله وحياته شاهدةً على سمو العطاء .. ليتذكر الناس – من يريد منهم أن يتذكر – أن الله بالغ أمره .. ولتصدق كلماته التي قالها في حياته دون أن يدري ما هو قدر الله فيه: (إن كلماتنا عرائس من الشمع حتى إذا متنا في سبيلها دبت فيها الروح، وكتبت لها الحياة).
وصلِّ اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
كتب وشهد به
إبراهيم منير
نائب المرشد العام لجماعة (الإخوان المسلمون) والقائم بالأعمال
الإثنين 2 صفر 1444 ه الموافق 29 أغسطس 2022 م
* نص الرسالة - ببعض التصرف - من رسالة للأستاذ إبراهيم منير نشرت من قبل في إصدار "رسالة الإخوان" من لندن في يوم 13 رجب 1425 هـ الموافق 29 أغسطس 2004م