إرث الأنبياء ورحيل العلماء.. نظرات في رحيل الدكتور يوسف القرضاوي
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن والاه ...
روى البخاري ومسلم عن عبدالله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما – أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:"إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يُبْقِ عالمًا اتَّخذ الناس رؤوسًا جهالاً، فسُئِلوا فأفتوا بغير علم؛ فضلوا وأضلوا"
وقال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا) الرعد:41] قال:" موت علمائها وفقهائها".
وقال الحسن رحمه الله: "موت العالم ثلمة في الإسلام، لا يسدها شيء ما اختلف الليل"
وفي الأثر عن علي رضي الله عنه قال: "إذا مات العالم ثلم في الإسلام ثلمة لا يسدها إلا خلف منه".
ولم لا يحتل العلماء تلك المنزلة في الإسلام؟ وكيف لا يُعد فقدهم مصيبة للأمة؟ وهم ورثة الأنبياء، فإنَّ "العلماءَ ورثةُ الأنبياءِ، وإنَّ الأنبياءَ لم يُورِّثُوا دينارًا ولا درهمًا، ورَّثُوا العِلمَ فمن أخذَه أخذ بحظٍّ وافرٍ" (رواه أبو داود والترمذي وابن ماحة وأحمد بسند صحيح).
وإننا اليوم إذ نفقد عالم الأمة وحبرها العلامة الدكتور يوسف القرضاوي؛ إنما تفقد الأمة بفقده مجدد دينها في زمنه، والصادع بالحق وإن تكالب أهل الباطل عليه، والمجاهد منذ شبابه الباكر حتى شيخوخته وقد قارب المائة، والداعية الذي جاب العالم بدعوته، وشغل الدنيا بعلمه، وكأننا نستحضر اليوم ما رواه ابن عبد البر وابن عساكر عن عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال: قلت لأبي: يا أبة أي رجل كان محمد بن إدريس الشافعي؟ فإني أسمعك تكثر من الدعاء له؟ فقال لي:" يا بني كان الشافعي كالشمس للدنيا، وكالعافية للناس، فانظر هل لهذين من خلف أو منهما عوض؟".. وما أشبه فراق الشافعي لأصحابه بفراق القرضاوي لأمته، وإن كان الشافعي قد رحل في زمن مليء بالعلماء والربانيين؛ فإننا نودع القرضاوي في زمن قلَّ فيه العلماء العاملون بعلمهم، الأسخياء بأرواحهم وأعمارهم.. وإن كنا نأمل في تلاميذ الشيخ وطلاب علمه أن يواصلوا المسيرة، ويكملوا الطريق، ولا يدعوا راية الحق التي رفعها غريبة طريدة.
ونحن إذ ننعى الشيخ الجليل إلى الأمة الإسلامية جميعها فإننا نعي قيمة ذلك الموروث العلمي والدعوي الكبير الذي خلفه شيخنا، وجعل منه رمزًا للوسطية والاعتدال في عصرنا، وداعية للاجتهاد والتجديد، وحربًا على الاستبداد السياسي الذي يُعد أساس تأخر الأمة، وتسلط أعدائها عليها، ومناصرته قضية فلسطين وتحرير المسجد الأقصى، ونصيرًا للشباب الباحث عن الهداية والرشد في زمن كثرت فيه الغوايات، واستشرت فيه الضلالات، واستُهدف فيه أعلى ما تملك الأمة وهو شبابها.
فكان شيخنا نموذجًا في علمه وعمله للوسطية والاعتدال، وإن أشاع أعداؤه غير ذلك، واجتهدوا في إلصاق تهمة الإرهاب والتطرف به، وهو منها براء.. لقد ألف الشيخ كتابه "ظاهرة الغلو في التكفير" ليقف في صمود أمام حمى التكفير التي اجتاحت شرائح من الشباب بعد ما تعرض لمظالم تشيب لها الولدان، وأدان حوادث العنف التي تعرضت لها مصر في الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي، كما أدان أحداث 11 سبتمبر سنة 2001 ضد أهداف أمريكية.
ولم يقف في مواجهة العنف الذي يدعي المشروعية؛ والغلو في الاعتقاد عند حدود جهده الفردي، بل أسس (مركز القرضاوي للوسطية الإسلامية والتجديد) عام 2008، ليكون مؤسسة علمية لتعزيز مبادئ الوسطية والاعتدال.
وأوضح بقلم الفقيه المحقق العالم بعصره مسارات الوسطية في ديننا من خلال مؤلفاته، ومنها "فقه الوسطية الإسلامية والتجديد"، "في فقه الأولويات"، "عوامل السعة والمرونة في الشريعة الإسلامية".
وواصل الشيخ عنايته بشباب الصحوة الإسلامية المباركة، فكتب من أجلهم: "الصحوة الإسلامية بين الآمال والمحاذير" وكتاب "من أجل صحوة راشدة"، وكتاب "الصحوة الإسلامية بين الاختلاف المشروع والتفرق المذموم" و"الصحوة الإسلامية من المراهقة إلى الرشد "، آملاً في تخريج أجيال راشدة من شباب الأمة لا تسقط في شراك أعدائها، ومزالق خصومها، ومؤامرات المتربصين بها.
ومد ناظريه إلى أبناء الأمة في المَهاجر والمنافي، فألف للأقليات الإسلامية مباحث ودراسات منها كتابه "في فقه الأقليات المسلمة"، وأسس المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث سنة 1997م، وكان أول رئيس له؛ ليحمل مهمة الإفتاء إلى مسلمي أوروبا، ويبحث ما يجدونه من مشكلات في مجتمعات يعانون الغربة فيها، ويتعرضون لموجات الإسلاموفوبيا التي اجتاحت أوروبا في زمنا. مع السعي لتحقيق اندماج الأقليات المسلمة في مجتمعاتها على نحو يحافظون فيه على هويتهم وقيمهم الدينية والحضارية.
وخاض الشيخ غمار معركة أخرى ضد الجمود الفقهي، ودعوات غلق أبواب الاجتهاد، في عصر يموج بالتحديات الجسام، التي يجب أن يتصدى لها علماء الإسلام، ويبحثوا عن إجابات لأسئلة عصرهم، ولا يقفوا عند معارك الأسلاف في أزمان خلت كانت لها اهتماماتها وتحدياتها، فكتب "الاجتهاد في الشريعة الإسلامية"، و"الفقه الإسلامي بين الأصالة والتجديد"، و"الحلال والحرام في الإسلام"، و"موجبات تغير الفتوى في عصرنا" و"دراسة في فقه مقاصد الشريعة"، و"فقه الجهاد"، و"كيف نتعامل مع التراث والتمذهب والاختلاف؟"، وغيرها.
وأدرك الشيخ رحمه الله أن من أكبر التحديات التي تواجه الأمة ذلك الانهزام الحضاري أمام زحف الحضارة الغربية المدججة بسلاح المستعمر وأطماعه، ولم يكن الشيخ معارضًا التلاقح الحضاري بين حضارات الغرب والشرق، ولم يكن ممانعًا للتعاون الإنساني في المشترَكات بين الأمم، لكنه تصدى بحزم إلى التغريب الفكري، الهادف إلى إلحاق الأمة بحضارة أعدائها، وإفقادها خصوصيتها الثقافية والدينية، فكتب "الحلول المستوردة وكيف جنت على أمتنا"، و"المسلمون والعولمة"، وكتب "الإسلام والعلمانية وجها لوجه"، و"التطرف العلماني في مواجهة الإسلام"، و"نحن والغرب أسئلة شائكة وأجوبة حاسمة"، وكتب "خطابنا الإسلامي في عصر العولمة"، و"شريعة الإسلام صالحة للتطبيق في كل زمان ومكان".
وتصدى للاستبداد السياسي في عالمنا العربي والإسلامي، ودفع ثمن ذلك التصدي للباطل وأهله، فقد وقف مع ثورات الشعوب العربية ضد أنظمتها الفاسدة في ثورات الربيع العربي، وأكد أن من حق الشعوب التعبير عن رفضها تلك الأوضاع المهترئة المفروضة على الأمة منذ قرون، وأن الحرية التي تنعم بها شعوب الأرض ينبغي أن تنعم بها شعوب الإسلام، ورأته الجماهير العربية - وهو في الخامسة والثمانين من عمره - يشارك الثائرين على الظلم في ميدان التحرير في مصر، ويخطب في الجماهير الحاشدة التي وضعت ثقتها في علمائها، وقد جمع خطبه ومقالاته في نصرة الثورة المصرية في كتابه "25 يناير سنة 2011 ثورة شعب ".
ودفع الشيخ ثمن ذلك غاليًا، فقد تعرض للاعتقال في مصر سنة 1949 بسبب قضية فلسطين، وفي سنة 1954 بسبب انتمائه إلى الإخوان المسلمين، ثم حُكم عليه بالإعدام سنة 2015 في محاكمات هزلية لتأييده الثورة على نظام حسني مبارك، واعتقلت ابنته علياء وزوجها خمس سنوات في ظروف بالغة السوء، ثم مُنع الشيخ من رؤية بلاده وأهله على مدار السنوات الباقية في عمره، قبل أن يُحرم أن يُدفن في ثرى بلده، ويُصلى عليه فيها، حيث أصدر وزير الأوقاف المصري قرارًا بمنع صلاة الغائب عليه.
وعاش الشيخ القرضاوي قضية فلسطين منذ شبابه الباكر، وهو طالب يدعو إلى الجهاد في أرضها المباركة، وهو شيخ يساند قضيتها في كل محفل ولقاء، ويتمنى أن يصلي في المسجد الأقصى بعد تحريره، ويكتب من أجلها كتابه "القدس قضية كل مسلم"، ويكتب أيضًا "درس النكبة الثانية.. لماذا انهزمنا؟ وكيف ننتصر؟".
لقد أيقن الشيخ الجليل - بتجارب السنوات التي حملها على ظهره - أنه لا نجاح للدعوة الإسلامية إلا بالعمل المؤسسي الجماعي، وقد مر بنا أنه أسس المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث سنة 1997، وأسس "الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين" عام 2004، كما أسس "مركز القرضاوي للوسطية والتجديد سنة 2008، وغيرها.
لقد عاش شيخنا وفيًا لفكرته الإسلامية التي ملأت عقله ووجدانه منذ شبابه الباكر، فظل حفيًا بمواقفه وذكرياته مع الإمام حسن البنا ورجالات الدعوة، وشارحًا فهم الإمام الشهيد، وله في ذلك كتب ومقالات، ومحاضرات ولقاءات، منها "التربية الإسلامية في مدرسة حسن البنا"، و"الإخوان المسلمون سبعون عامًا في الدعوة والتربية والجهاد"، وشرح للأصول العشرين لركن الفهم عند الإخوان المسلمين، وكتابات أخرى.
لكن ذلك الانتماء الفكري لدعوة الإخوان ومدرسة البنا كان معراجًا للشيخ لآفاق رحيبة تتسع لجميع الدعاة والدعوات الإسلامية الصحيحة، فاعتبرته شيخًا من شيوخها ، وابنًا من أبنائها، ونصيرًا للفكرة الإسلامية الجامعة.
رحم الله شيخنا الجليل، وتقبله في الصالحين، وعوض الأمة عن فقده خيرًا، وخلفنا فيه بخير وحسن عاقبة، وشد ظهور تلاميذه وأبناء مدرسته، وطلاب علمه؛ كي يحملوا رسالته إلى العالمين، وهي رسالة الإسلام الخالدة المتجددة التي تجمع ولا تفرق، وتحمل الخير للإنسانية كلها.
إبراهيم منير
نائب فضيلة المرشد العام لجماعة "الإخوان المسلمون" والقائم بأعماله
السبت 5 ربيع الأول 1444هـ؛ الموافق 1 أكتوبر 2022م