الإمام البنا واستئناف حركة الإسلام في الحياة
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى أهل بيته ومن والاه.
كان عالمنا الإسلامي في موقع الأجير الخادم رغم مساحاته الشاسعة، ورغم ثرواته العظيمة، ورغم تقاليده العريقة، ورغم فكرته الحية التي هي دين للناس كافة ومنهج للحياة عامة.
فاجأ البنا هذا العالم الإسلامي بشخصيته الفذة، وواجه فكرًا مغلوطا فصحّحه، وقدمه لأمته نضيجًا؛ فيه كل ما تطمح إليه الأمة من كمال، وما تحرص عليه من خير، هو موجود وزيادة، ومحرر من دخنه كذلك.
قدّم فكرًا يسع احتياجات الأمة جميعا؛ من مرحلة ما قبل النصر، من حسن الاستعداد ومتانة التكوين، إلى مرحلة النصر؛ من تحين الفرصة ودقة الإنفاذ، إلى ما بعد النصر بآماد بعيدة؛ من نجاحه في الوصول إلى الغايات، ومن تغلبه على ما يعترضه من عقبات وصعاب.
وواجه البنا تديُّنا محصورًا في الصوامع، والبِيَع، والرُّبَط والخلوات، فأذاعه ونشره؛ ليتناول مظاهر الحياة جميعا، وابتعد به عن عمل النُّسَّاك الذين هَزَلت أجسادهم ولم يبق لهم إلا رحلة الزهادة والانقطاع في الصوامع والبِيعات.
يقول رحمه الله: حملت مخاوفي يوما إلى كبارٍ أطلب مشورتهم والاستعانة بهم؛ وخيِّرت فاخترت، بين التصوف الصادق بما يعنيه من الإخلاص والعمل والانقطاع والعزلة، وبين التعليم والإرشاد بما يعنيه من مخالطة الناس وغشيان مجامعهم. فاخترت الثاني بعد أن نهجت الأول؛ لأن العمل الذي لا يتعدى نفعه صاحبَه قاصر ضئيل. وأما العمل الذي ينتفع به العامل وغيره من قومه وبني جنسه؛ فيكون له شرفه وخطره وجلاله.
وواجه البنا جيلا أفسدته روح الخنوثة والميوعة والاستهتار والجبن؛ فألبسه لباس الجِد؛ ففارق اللذات.
واجه جيلا أفسدته عقدة النقص والدونية والإعجاب بالخصم إعجابا أدى إلى تقليده في كل ما صدر عنه. فحوّل اهتمامه وجعل وراثة النبوة ظاهرة في شمائله؛ يُعرف في مجتمعه بسمته الخاص من حال صالحة قوية، وبذوقه الخاص من إلف المشقة وتعوُّد الخشونة، وبفلسفته العالية من روح الكفاح وافتداء الفكرة.
وواجه جيلا أفسده فقدان الثقة في صلاحية الإسلام؛ فأوقفه على ما في الإسلام من جلالة ما لم يعرفه؛ فرجعوا به بعد أن هربوا منه، وعرفوا دينهم، وعرفوا أنه يكفيهم كذلك.
وواجه البنا مجتمعا مترديا؛ نفوس أهله لا تصلح لعمل جِدّي، فأسرع إليه يقوي روابطه، ويرفع من درجة أخوته بالتعارف والتآلف: لأنه كما كان يقول: "أريد أن أكتشف كوامن العظمة في نفوس رجالي"؛ فكان يعلم مَنْ حان أوانه ووجب ندبه، ومن يتريث في أمره إلى حين.
وبالتفاهم والتقارب: لأنه كثيرا ما كان يقول: " إنَّ سيرا بدايته ما أنا فيه، ونهايته العالم أجمع - يحتاج من الفئة التي تريد ذلك أو تحاوله، إلى أن تعلن حسن استعدادها لإصلاح العيوب، ثم أن تكلف نفسها غاية ما تستطيع؛ فقد يأتي من يقفوها، ويستطيع فوق ما استطاعت".
وبالتساند والتكافل؛ فكثيرا ما كان يقول: "إنَّ الفقر المحض يجعل النهوض الروحي أمرًا غير ميسور! كيف يستشعر معنى العزة والكرامة من جاع بطنه وعري جسده؟". فلما عزم ومضى كان قد خلَّف وراءه أمة مقبولة الدعوات، طاهرة الفم، تُؤثِّر ولا تتأثر، توجه ولا تتوجه، تقود ولا تَنقاد.
وآخر دعوانا أن الحمد لله وصلِّ اللهم وسلم على محمدٍ وعلى آله وصحبه وسلم.