الموقع الرسمي للإخوان المسلمون

الدكتور صلاح عبد الحق يكتب عن الشهيد سيد قطب فى ذكراه

الدكتور صلاح عبد الحق يكتب عن الشهيد سيد قطب فى ذكراه

سيد قطب

البطل الذي يتمنى كل منا أن يكونه وإن لم يقدر.

هو من العلية النادرين الذين ينصفهم التمييز وتظلمهم المساواة.

كان يبدو بيننا رغم نحافته وضآلته؛ لشيخوخته وسنه، وعلته ومرضه؛ الأطول والأعرض والأكثر وسامة.

فرغم معاناته وحرمانه لما نزل به من ألم وقسوة وظلم وأذى؛ كان يبدو مشرقا بأنوار الهداية، محفوفا بجلال الحق، وضيئا بروعة الإيمان، وقد منحه القرآن أسراره، وكشف له عن كنوزه، وأشاع فيه عطره، وملأه هدى ونورا.

عرفناه في ظروف صعبة ومجهدة لفترة قصيرة، لكنها كانت كافية لندرك ما في نفوسنا من فضائل لا يعلم وفرتها إلا الله، ولندرك نفاسة ما بين أيدينا من فكرة حية هي دين للناس كافة ومنهج للحياة عامة؛ فنحسن نفع أنفسنا بها، ونفع الناس بها كذلك، ولندرك أن ما عندنا لا يستحق من أمتنا كل هذا الإهمال.

عرفناه أستاذا؛

يعلمنا أن هذا الدين نزل من أجلنا وسيتحقق بجهودنا، وأن علينا السعي والجهد والنية والقصد؛ فإن الله لم يكلفنا نتائج الأعمال، ولكنه كلفنا حسن القصد وصدق التوجه؛ حتى لا نستعجل النتائج قبل الوسائل، فنرضى من الغنيمة بالإياب.

وعلمنا أن للكون سننا وأنها غلابة، من أخطأ فيها استوفى نصيبه من الألم والقرح.

وعلمنا أن للواقع حكمه واعتباره؛ فهو الحاكم الوحيد على قدر الاستطاعة، فما لم يكن ميسورا، ففي الصبر مندوحة، فمن أراد أن يبني برجا، فليجلس وليحسب نفقته وما يلزم لكماله حتى لا تعوزه النفقة، أو تخذله القدرة.

وعلمنا أن هناك مبررا لوجودنا ومبررا لقيادتنا للإنسانية كذلك.

لأن الحق عندنا وحدنا - نحن المسلمين - الباقي بأصوله الربانية من كتاب الله وسنة رسوله، وما عداه لحقه التحريف، وأدمج في أصوله.

ولأن لدينا منهجا تستطيع البشرية من خلاله أن تحتفظ بنتاج عبقريتها، وأن تستفيد منه كذلك.

منهج يقوم على القصد والصدق بعيدا عن التضليل والتهريج والخديعة والكذب؛ فلن تُقضَى فيه الجماهير من أجل مصالح موهومة لفئة قليلة.

منهج ليس فيه أي معنى رجعي أبدا؛ فلن يكون نقضا لاتفاقيات دولية، ولا اعتداءً على أقليات مواطنة أو أجنبية، ولا إخلالا بنظم حكم نيابية، ولا إحياءً لأي مظهر رجعي لا يتفق مع المدنية الصحيحة؛ فالإسلام خير كله... وقد وضع لكل ذلك من النظم أعدلها وأفضلها. (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) [الأنبياء: آية 107]، منهج عُرِف بدقة أحكامه وحسن تصويره للأمور وسعة نظره وترحيبه بالصالح النافع من كل شيء مما لا يتنافى مع أصول الإسلام ومقاصده، فقرر قاعدة المصالح المرسلة، واعتبر العرف وأثاب على الاجتهاد بشروطه، واحترم رأي الإمام، وسيكشف الزمن للناس عن ما فيه من جلالة ما لم يعرفوا.

إنه منهج رفيع، لا يُعرٍض عنه إلا مطموس، ولا ينكره إلا منكوس، ولا يحاربه إلا موكوس، ولا يدعه إلا من أخلد إلى الأرض واتبع هواه.

عرفناه والدا؛

يعرفنا ويحبنا، نقرأ في قسمات وجهه، ونرى في بريق عينيه، ونسمع من فلتات لسانه ما يدلنا على ما يضطرم في قلبه من المودات الحلوة، والمشاعر القريبة والوشائج الوثيقة والعواطف الصادقة، فكثيرا ما كان يقول إن العواطف أساس الحضارات.

كان يشعرنا بالأمن في جانبه وبالثقة في مودته وبالعطف غير المتصنع على أخطائنا وحماقاتنا كذلك، فبشيء من سعة صدره في أول الأمر اكتشف ما في نفوسنا من ثمرة حلوة شهية بعيدا عن تلك القشرة الصلبة التي نواجه بها مشقات الحياة من أجل البقاء.

عرضوا عليه يوما إن هو سايرهم على الخسة والدون، ووافقهم على الخيانة والغش، ورضي معهم بحياة هي دون الحياة حيث لا شرف ولا مروءة؛ إذاً لتصدر المجالس، ولظهر بأكبر المظاهر، ولحمل أفخم الألقاب؛ فأبت له همته، وأبى بلاؤه أن ينجو بنفسه ويدعنا، وإن أقحم على المكروه نفسه.

كان يرانا خير شباب حملته الأرض في هذا الجيل، وأنه لن يفرط فينا ولا فيما نمثله بسهولة؛ فآثرنا بحياة طويلة، أما هو فكان قد عزم ومضى لا يلتفت إلى غير نصيبه الذي لا يفوت حيث ما عند الله من الرضا والمتاع.

عرفناه شيخنا؛

الذي تعهدنا ورعانا بحاله الصالحة القوية التي تفيض قوة وكمالا وعلما وإيمانا إذا توجه بها إلى غيره نقله من حال إلى حال.

شيخنا الذي ربانا وعاهدنا ألا يتخلف عن الواجبات متخلف مهما كانت أعذاره؛ فإن قصرتم فسيتضاءل هذا النظام حتى يموت؛ وفي موته أكبر خسارة للدعوة وهي اليوم أمل الإسلام والمسلمين (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) [محمد: آية 38]

شيخنا الذي أوصانا بالمران على حسن الصلة بالله سبحانه؛ فكل أمر خطير يحتاج إلى حياة موصولة بالله جل شأنه (يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ [آل عمران: آية 43]

شيخنا الذي علمنا أن المسلم ينظر إلى غالبه من علٍ، ويعلم أنها فترة وتمضي، وأن للإيمان كرة لا مفر منها؛ وهبها كانت القاضية؟ فإنه لا يحني لها رأسا، فإن الناس كلهم يموتون. أما هو فيستشهد، ولسان الغيب يهتف (لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ) [آل عمران: آية 196،197]

كان قائدنا؛

الذي عرفناه بحكمه الصادق على حوادث التاريخ، كان الراعي الصالح بين رعيته، والوالد الصالح بين أبنائه؛ يرى من الله ويريهم ويسمع من الله ويسمعهم أن المستقبل لهذا الدين، وأن له دورا هو مدعو لأدائه، سواء أراد أعداؤه كلهم، أم لم يريدوا؛ لأنه ليس هناك عقيدة أخرى ولا منهج آخر يستطيع أن يؤدي عنه ذلك الدور، كما أن البشرية في جملتها لن تستطيع أن تستغني طويلا عنه.

فلما حل الأجل، وحان الرحيل وبدا شبحه مرتحلا في الأفق؛ خطا خطواته الأخيرة متعجلا إلى رضوان ربه وابتسامة الرضى تعلو وجهه المُغضَب النبيل؛ فقد كان يؤمن بقضية عادلة، وقد بذل فيها وسعا، وكسب فيها جولات، وقد تحرر من عقدة النقص والخوف، وقد اختبر قوة عدوه فإذا هي قابلة للكسر، ممكنة القهر، وقد أذاقه طعم لكماته؛ فمن حقه أن يمشي مرفوع الرأس موفور الكرامة؛ لأنه لم يخضع يوما، ولم يستسلم أبدا

كان يدرك أن القدر قد خصه بتبعاته؛ لأن المزايا الإنسانية واجبات وأعباء، من حضرته مزاياه قام بأعبائه.

فلما قضى وهو يسطع ويتألق؛ كان قد فرض حبه واحترامه على الجميع؛ المحبين والكارهين له على السواء.

فإن كان قد اشترك معنا في الموت، إلا أنه قد انفرد دوننا بالمجد.

علو في الحياة، وفي الممات ***** لحقٌ كان إحدى المعجزات

قلت لما لم يُقَم تمثاله

خير تمثال له أعماله

فاذكروه.. خلدوه

واكتبوه في كتاب الخالدين 

الدكتور صلاح عبد الحق

القائم بأعمال فضيلة المرشد العام لجماعة “الإخوان المسلمون”

الخميس 25 صفر 1446هـ؛ الموافق 29 أغسطس 2024م