حول إطار عام لمعالم تجديد الفقه الإسلامي
لا شك أن الفقه - وهو معرفة الأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية- منتج بشري يقوى بالاجتهاد والبحث والدراسات المعمقة، ويضعُف بالإهمال، ومن ثم يحتاج إلى إعادة النظر دوما في كل جديد ومراجعة كل قديم.
فلا يمكننا القول: إن الفقه قد نضج حتى احترق في وسط هذا الموج الهادر من القضايا المستجدة في شتى أبواب الفقه ابتداءً من باب الطهارة، وانتهاء بالجهاد في سبيل الله.
وقد صح عن الرسول ج أنه قَالَ: (لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي وجعلتها عمرة ..) [رواه مسلم]. وكان عمر بن الخطاب t يقول: ذاك على ما قضينا، وهذا على ما نقضي.
ولقد ابتلي الفقه بنوعين من البشر يتحدثون عن التجديد، وفي الواقع أنَّ كلامهم لا يعني إلا التبديد وإضاعة وإضعاف الفقه وخروجه من الريادة والقيادة!
أما الفريق الأول؛ ويمثله -أسوأ تمثيل- جمال البنا؛ الذي يريد فقها جديدا، ويرى أن هذا الفقه الذي بين أيدينا لا يصلح للتجديد، بل يريد فقها جديدا لا يمتُّ للفقه السابق بسبب، ولا ينتسب إليه بصلة!
فلا يعجبه مصطلح التجديد؛ لأن الفقه من وجهة نظره لا يصلح فيه التجديد، بل لا بد من فقه جديد، وهذا الفقه يحتاج إلى تفسير جديد، وأصول فقه جديدة، بل لا نكون مبالغين إن قلنا إنه يحتاج إلى "قرآن جديد" و"سنة جديدة" وأصول جديدة!
وقد وضع طريقة في التعامل مع القرآن الكريم لم يُسبق إليها، تؤول في النهاية إلى قرآن جديد، فهو يريد أن يتخلص من ركام التفاسير بداية من تفسير ابن عباس ونهاية بالظلال ومن أتى وسيأتي من بعده، ولا يعترف بأسباب النزول كلها، ولا يرى أن للغة العربية وقواعدها دورًا في فهم كتاب الله تعالى...
أما السنة النبوية المطهرة فقد نفى أن يكون لها دور مستقل في التشريع يكمل القرآن ويضبط فهمنا له، فالرسول المعصوم -في زعمه- لا يعدو أن يكون «رجل بريد» -هكذا يقول- جاءنا بهذا القرآن من عند الله وانتهى دوره عند هذا الحد.
والفريق الثاني: يمثله شريحة كبيرة ممن ينتسبون إلى العلم الشرعي دفعتهم الغيرة على الفقه إلى الزعم بأن الفقه لا يحتاج إلى تجديد، وأن كل محاولات التجديد متهمة، والغرض منها هدم الفقه كلية، وينادون بغلق باب الاجتهاد بالكلية، فما ترك الأول للآخر شيئا يجتهد فيه، وهذه دعوى قديمة ومستمرة حتى يوم الناس هذا، وهذا سبب من أسباب تأليف الإمام السيوطي كتابه (الرد على من أخلد إلى الأرض وجهل أن الاجتهاد في كل عصر فرض).
والصواب أن الفقه يحتاج إلى تجديد دائم ومستمر؛ لكن نحتاج إلى الإجابة عن سؤالين هامَّين هنا في عجالة تناسب هذا المقام.
السؤال الأول: من يقوم بهذا التجديد؟ وأبادر فأقول إن من يقوم بهذا التجديد العلماء الثقات العدول، الذين صح فيهم حديث المعصوم ج: (إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها) [صحيح أبي داود].
وقد يكون المجدد فردا أو جماعة أو مجمَّعا فقهيا، وهو الأنسب في مسألة التجديد الفقهي، حيث إن الاجتهاد الجماعي هو الأجدر والأحق بالتجديد، وإن كان ذلك لا ينافي جهود الأفراد.
السؤال الثاني: ما الذي يتناوله التجديد؟ هل يتناول الأصول والفروع، والثوابت والمتغيرات؟ والتجديد حتى يكون تجديدا لا تبديدا، وبناء لا هدما، يجب أن ينصبَّ على الفروع، والمتغيرات، وليس على الأصول والثوابت، ويمكنه أن يتناول ما يلي:
أولا: تفعيل أصول الفقه، والنظر إلى ما قدمه الأقدمون والبناء عليه، والعودة به إلى معينه الصافي الذي كان واضحا تمام الوضوح في أذهان الصحابة؛ فقد تلقوه من النبي ج كما تلقوا القرآن الكريم غضًّا طريًّا بعيدا عن الفلسفة وعلم الكلام الذي أدخل إليه في فترات متلاحقة، لم تكن موجودة عند الصحابة الكرام ولا التابعين، ولا حتى عند من سبق إلى التدوين وهو الإمام الشافعي، في الرأي المشهور.
ثانيا: إعادة كتابة الفقه كتابة سهلة مفهومة للخاصة والعامة، واعتماد آخر ما استقرت عليها الفتوى في المذاهب الفقهية المعتمدة عند أهل السنة والجماعة، ولا مانع من الانفتاح على المذاهب الأخرى، فالحكمة ضالة المؤمن أنَّى وجدها فهو أولى الناس بها.
ثالثا: التركيز على الحكمة من التشريع بعد معرفة الأحكام الشرعية، واستعمال مقاصد الشريعة الإسلامية في الترجيح بين المذاهب الفقهية.
رابعا: تخليص الفقه مما علِق به من الثقافات الواردة من ترجمة التراث اليوناني وغيره، والعودة به إلى ما كان عليه في عهد الصحابة والتابعين، وضبط المصطلحات وفق القرآن الكريم والسنة المطهرة واللغة العربية.
خامسا: الاهتمام بالقضايا المعاصرة وربطها بالقضايا الفقهية القديمة، بحيث يكون الفقه مشتبكا مع الواقع، ومعالجًا للمشكلات.
سادسا: ربط الأحكام الفقهية بالتوحيد الخالص؛ بحيث يسهل الانقياد إلى الأحكام الفقهية حتى لو بدت شاقّة، وتطبيقها بحبّ ورغبة؛ حيث إن في تطبيقها واتباعها خيري الدينا والآخرة.
سابعا: اعتماد الاجتهاد الجماعي من خلال المجامع الفقهية المعتبرة، والعلماء العدول، وتنقيته من الآراء الشاذة التي تتعارض مع القواعد الكلية والنصوص القطعية من القرآن الكريم والسنة المطهرة.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.