"جورنيكا" وغزة.. لا وجه للمقارنة!
الإنسان هو المخلوق الوحيد الذي اختصه الخالق سبحانه وتعالى بملكة التنوع في أساليب التعبير التي تتفاوت من شخص إلى آخر. وعلى قدر ما يحوز الإنسان من قدرة على التعبير بأسلوب ما، احتل مكانته بين فئة المبدعين التي تُعد أشد الفئات تأثيرا في المجتمع..
ومن أساليب التعبير الرسم، وهو أسلوب التعبير الأول الدال على وجود الإنسان، في بقعة ما من الأرض، ولولا هذا الأسلوب (الرسم) وما يتفرع عنه من فنون، لما عرفنا شيئا عن تاريخ الأمم السابقة..
والرسم، فكرة، والفكرة "كلام" يدور حول معنى معين (شعوري، أو محسوس، أو مُتخيَّل) في عقل الفنان، ما يلبث أن ينتظم، وفق قواعد معينة، على مساحة ما، فيصبح عملا فنيًّا، يمنح البقاء لهذا المعنى، إلى حين..
وقد أبدع الفنان المسلم أيَّما إبداع، فأسس نمطه الفني الخاص؛ كي يضفي على حياته لمسة من الجمال، تراعي معيار "الحلال والحرام"، وهو المعيار الذي لم يكترث له فنانو الأمم السابقة، والمعاصرة أيضا (ومنهم مسلمون مع الأسف) الأمر الذي جعل الفنون (عموما) ترتبط في أذهان العامة، والمتدينين على وجه الخصوص، بالانحلال الأخلاقي، وهو ربط متعسف، وغير منهجي.. ففساد الفنان لا يعني فساد الفن، من حيث هو أسلوب من أساليب التعبير..
"جورنيكا" وغزة
تُعد لوحة "الصرخة" التي رسمها الفنان النرويجي "إدوارد مونش"، بأسلوب عفوي للغاية، عام 1893م، من أشهر اللوحات التي تعبر عن الخوف.. وقد ظلت اللوحة بعيدة عن الاهتمام (فنيا وجماهيريا) نحو أربعين عاما، حتى اندلاع الحرب العالمية الثانية التي راح ضحيتها نحو 62 مليونا من البشر!
هذا العدد الهائل من الضحايا، ذكَّر النقاد بلوحة "الصرخة"، فأكثروا من الحديث عنها، لتصبح (منذ ذلك التاريخ) رمزا للاحتجاج على القتل، وسفك الدماء، وإشاعة الخوف والذعر بين الآمنين، على الرغم من أن "مونش" رسم هذه اللوحة إثر نوبة صرع؛ إذ كان يعاني من اضطرابات نفسية!
هناك أيضا (وهو المهم) الجدارية العملاقة "جورنيكا" (3.5م X 7.75م) التي رسمها الفنان الإسباني بابلو بيكاسو في منتصف عام 1937، بتكليف من حكومة الجمهورية الإسبانية الثانية، تخليدا لذكرى قصف مدينة "جورنيكا" التي تقع في إقليم الباسك..
ثمة تشابه بين "جورنيكا" وغزة، غير أن هذا التشابه يبدو غير مرئي إذا ما قورن بالفارق الهائل بينهما، في كل شيء؛ مدة القصف، مساحة القصف، سبب القصف، وعدد الضحايا..
في الثلث الأول من القرن المنصرم، دارت في إسبانيا حرب أهلية، بين الجمهوريين والقوميين.. حينئذ تدخل "هتلر" لصالح "فرانكو"، فقصفت الطائرات الألمانية مدينة "جورنيكا" الإسبانية التي كانت معقلا لحركة المقاومة الجمهورية، لمدة "ساعتين"، و"أربع ساعات" في رواية أخرى.. أما غزة العربية، فتقصفها (منذ عام) طائرات أمريكية ترفع علم الكيان الصهيوني، بقنابل وصواريخ أمريكية، وبريطانية، وفرنسية، وألمانية، وإيطالية، وكندية، ولم تتدخل حكومة دولة عربية واحدة لصالح غزة، بل اختارت حكومات أقرب الدول العربية إلى غزة (جغرافيًّا) أن تكون في موقع "الحليف" للعدو الصهيوني، وإن ادَّعت غير ذلك!
أما عدد ضحايا "جورنيكا" فموضع جدل.. حكومة الباسك تقدر عدد القتلى بنحو 1654 قتيلاً، في حين قدرت دراسة إسبانية العدد بحوالي 126 قتيلاً فقط.. أما غزة، فقد تجاوز عدد شهدائها خمسين ألفا، معظمهم من الأطفال والنساء، عدا المفقودين، والمصابين، والحرب لم تنته بعد!
معرض "من وحي الصمود"
قد لا يعلم كثير من الإخوان أني تخرجت في كلية الفنون الجميلة، غير أن علاقتي بالفن اقتصرت على الكاريكاتير السياسي، إلى جانب بعض الفنون التطبيقية الأخرى، ولم تدَعْ لي مشاغلي الفرصة للتفكير في إقامة معارض فنية..
منذ شهور، بدأت إنجاز عدد من الأعمال الفنية التي تجسد جملة من المعاني التي تزاحمت وفاضت بها كلمات أهلنا في غزة.. مزيج من الصمود والثبات والإصرار على البقاء في الأرض، رغم سياسة "الأرض المحروقة" التي لجأ إليها العدو الصهيوني؛ لتهجيرهم قسريا، فضلا عن الشعور بالخذلان الممزوج بالغضب حينا، وبالعتاب أحيانا.. وقد اقترح عليَّ الزملاء في رابطة الإعلاميين المصريين بالخارج إقامة معرض لهذه الأعمال، تحت عنوان "من وحي الصمود"، تجدون مع المقال بعضا منها..
إن هذا المعرض بمثابة دعوة مفتوحة للفنانين الأحرار، حول العالم؛ كي يسجلوا للتاريخ (بالرسم) جانبا من "ملحمة غزة" التي سطرها بدمائه شعب مُحاصَرٌ أعزل إلا من الإيمان بالله، وبضع آلاف من المقاومين صنعوا أسلحتهم بأيديهم؛ ليواجهوا على أرضهم المحتلة سبع دول عظمى، تملك ترسانات من أشد الأسلحة فتكا بالإنسان الذي صدعونا بالحديث عن "حقه" في الحياة والأمن.. ذلك الحق الذي يتبخر في لمح البصر (إلى جانب حقوق أخرى) إذا كان هذا "الإنسان" عربيا أو مسلما!