أشعب: أيقونة السخرية ضد الجوع والفقر
ارتبطت نوادر أشعب في الذاكرة العربية، بالمزج ما بين الخفة والدعابة والحيلة، فأشعب شخصية فريدة من نوعها في التطفل حتى عدُّوه ملك (الطفيليِّين)، وهو أيضا أيقونة الظرفاء على مر العصور، ليس فقط لأنه اشتهر بقدرته على الاستفادة من المواقف لصالحه، بل لقدرته على الإضحاك بأسلوبه الساخر والمستفز والناقد للمجتمع.
وأشعب الطفيلي هو أشعب بن جبير المدني، وقيل إنه خال الأصمعي وهو مولىً من موالي عثمان بن عفان رضي الله عنه، حضر يوم هجوم البغاة على دار عثمان، وشهد بأنَّ عثمان رضي الله عنه طالب من معه أن يغمدوا سيوفهم، وأنه أمرهم بقوله: من أغمد سيفه فهو حر لوجه الله (وذلك حتى لا تشتعل الفتنة). وقد نال أشعب حريته؛ لأنه كان أول من ستجاب لأمر عثمان رضي الله عنه وأغمد السيف يومها.
من الجوع والفقر ولدت الفكاهة
لم يكن العرب الذي سكنوا شبه الجزيرة العربية، ولا أولئك الذين عمروا وادي مكة، في جاهليتهم ولا في صدر الإسلام منفتحين على الأمم، وكانوا محصورين بين رحلتي الشتاء والصيف في تنقل شبه داخلي من الجزيرة إلى الشام، ومن الجزيرة إلى اليمن، فكان تنوع طعامهم يكاد أن يكون منعدما.
يخبرنا بذلك المولى سبحانه وتعالى في كتابه الكريم على لسان سيدنا ابراهيم عليه السلام "رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ "، فعندما خطت أقدام هاجر عليها السلام حاملة ولدها؛ كان هذا هو الحال ، فالقحط والجوع ونقص الأرزاق وقلة الثمرات- سمة لازمت تلك البقعة من الأرض منذ البدايات وحتى مرحلة الفتوحات .
لذلك لم يكن مستغربا أنْ يظل ذكر هاشم جد النبي صلى الله عليه وسلم يتردد بين العرب بسبب تقديم الطعام للحجيج، وقيامه على رفادتهم، بل إن اسمه الحقيقي (عمرو) استبدل بكنيته التي اشتهر بها بسبب هشمه للخبز، ففي ذلك الزمان لم تكن الفروق الطبقية بين العرب واسعة، فالغني يعاني أيضا من نقص الأقوات وألوان الطعام شبه موحدة؛ فكان الاشتهار بالكرم والتغني بالكرماء وذكر قصصهم ونوادر ما حدث معهم هو الأصل.
في صدر الإسلام وزمن النبوة؛ حيث المدينة وقائدها يثبتون - قدم الإسلام الأولى؛ لم يتغير الأمر كثيرا، فعائشة رضي الله عنها تخبرنا عن بيت النبي (صلى الله عليه وسلم) بقولها (كان يمر الهلال والهلال والهلال ولا يوقد في بيت رسول الله نار)، فبيت قائد الأمة لا يطهى فيه طعام لثلاثة أشهر متصلة، وتكمل قائلة، كان طعامنا الأسودان (التمر والماء)، والنبي (صلى الله عليه وسلم) يرفع من قيمة امتلاك الخل (نعم الإدام الخل).
الراصد لتلك المرحلة الممتدة من ظهور البيت الحرام، وحتى بدايات الفتوحات لن يجد احتجاجا طبقيا، أو ظهورا لحكايات وطرائف ونكات للطفيليين، فالأخلاق السائدة في تلك الفترة كانت تمجد الكرم والكرماء وتذم البخل، حتى جاءت مرحلة الاختلاط بأمم أخرى اختلاط معاشرة ونقل قيم، فظهرت طبقات مختلفة من المجتمع؛ منها الطفيليين، وظهر أشعب كأول محتج ساخر وتلقائي (مرتجل) على الأوضاع ومنشئ فكاهة الجوعيات.
والغريب أن كل مرادفات مادة الضحك في اللغة جاءت من مشتقات الطعام وما حوله، فالفكاهة من الفاكهة، والملحة من الملح، والنوادر من الندرة، وندر الشيء أي قلّ وعزّ، والنكتة من مرادفات التمر، والهزل من الهزال، والظرف من وعاء الطعام، فمعظمها يدندن حول الطعام وندرته، أو كثرة البحث عنه وتفقد موائده.
أشعب يجسد حالة الجوع والفقر:
يقال إن لكل إنسان نصيبا من اسمه، وإن تنطبق هذه القاعدة بنسب متفاوتة على الناس، فإنها تنطبق على أشعب بنسبة مائة في المائة، فلفظة أشعب تعني الفراق الذي لا رجعة فيه؛ فالعرب يقولون "أشعب فلان" أي "مات فلان "؛ كما جاء في لسان العرب. وأشعب فارق كل العادات والتقاليد السائدة في المجتمع الإسلامي من كرم وقناعة وتعفف، وفارق حتى ما تعلَّمه من قراءة القرآن وحفظه فراقا لا رجعة فيه، وتحول إلى مهرج يخفي في ثوب التهريج نقدا لاذاعا للجميع. فهل كان أشعب مجرد طماع يضحك الناس من أجل اقتناص لقمة فقط؟ أم كان محتجا بنكاته ونوادره ومزاحمته للأغنياء في موائدهم والسطو الساخر على طعامهم. ناقدا للأغنياء في استئثارهم بالمال وضنهم على الفقراء؛ فراح يقتنص حقه منهم بطريقة لا تضعه تحت طائلة القصاص؟
لكي نفهم ما فعله أشعب ومن بعده طبقة الطفيليين لابد أن نعلم أن الاحتجاج على الجوع والفقر لم يتوقف يوما وإن اتخذ أشكالا عدة. ففي الجاهلية ظهرت طبقة الصعاليك التي راحت تهاجم قوافل الأغنياء المشتهرين بالشح لتنهبها، وتوزعها على الفقراء، وحين جاء الإسلام كان التوجيه بالزكاة والصدقات، ولكن تقدم الزمن واختلاف الخلف عن السلف أنشأ أمورا تحتاج إلى من يحتج، فكان الاحتجاج بالفكاهة وكان أشعب.
أشعب إذن يمثل نمطا من السلوك؛ أفسح له المجتمع مجالا سمح به على مستوى شعبي، وأيضا على مستوى الحكام، فالعقل الجمعي الشعبي تقبل أشعب وطبقته؛ ليكونوا عونا لهم على الترويح عن أنفسهم وإضفاء المرح على مناسباتهم، والقصر (الحكام) تركوا تلك الظاهرة؛ لتكون بمثابة المتنفس الذي يخرج فيه المجتمع غضبه. نحن أمام إرهاصات النكتة السياسية في زمن مبكر.
دلالات في نكات:
روى الجاحظ في كتابة البخلاء نوادر لأشعب، لكنه تناولها بالبعد الخبري وللضحاك، ولكننا إن توقفنا أمامها وسبرنا غورها سنجد خلف كل نادرة رمزية تنتقد سلوك من سلوكيات الأغنياء في المجتمع، وتهاجم من تسببوا بما إليه حال المجتمع الذي تجبى إليه خراجات البلدان، ويوجه لقيم ربما غابت عن البعض.
روى الأصفهاني في كتابه الأغاني أن أشعب مر يوما بامرأة تصنع طبقا من الخوص؛ فقال لها زِيدي فيه ووسعيه، قالت لماذا؟ قال لعل أن يُهدى إليَّ فيه شيء.. فأشعب هنا يوجه بوعي أو بدون وعي إلى قيمة التهادي وتفقد الجيران وإهداء الطعام.. ولعلها غابت في ذلك الزمن الذي سمعنا فيه عن احتجاج أبي ذر الغفاري رضي الله عنه على ما تفعله بنو أمية في المال من البذخ وبناء القصور والإفاضة بالعطاءات على الشعراء بأموال الأمة.
في مشهد آخر يشير أشعب إلى عجز الكثيرين عن الزواج وقلة ذات اليد حين سألوه ما مبلغ طمعك يا أشعب؟ ليرد عليهم بما لا يخطر على البال بقوله: (ما زفت عروس في المدينة إلا وقمت بكنس داري وفتحت بابي لعلهم يأتون بها إلى).. نقد لاذع لصعوبة الزواج والفقر في زمنه؛ يقدمه أشعب في صورة تحامق وطمع.
ولعل أخطر نكات أشعب حين سألوه: هل هناك من يبزك في الطمع، فقال نعم (كلبة قوم شاهدتها تتبع شخصا يأكل العلكة بما يزيد عن فرسخ أملا أن يلقي لها مما يأكل) ... فحتى الحيوانات بنظر أشعب لم تسلم من رفاهية الأغنياء وعدم اكتراثهم بأحوال من حولهم بشرا كانوا أو حيوانات.
أشعب وجشع الأغنياء
تدفقت الأموال وانتعشت التجارة بين الأمصار؛ فقلَّ بين التجار من يتحرى الدقة في اكتساب المال، وندر من يبحثون عن الحل والحرمة، فبعض قيم المادية تسللت إلى نفوس التجار، مما أثَّر على الفروقات الطبقية، فازداد الغنيُّ غنىً، وازداد الفقير فقرًا.
وهنا يدلي أشعب بدلوه ويخبرنا عن جارية جاءته بدينار وطلبت منه أن يحفظه أمانة عنده لحين الطلب، فلما عادت إليه تطلب ديناره بعد فترة قال لها: هو عندك، ارفعي الفراش وخذي ولده، فلما رفعت الفراش وجدت بجواره درهما فأخذته، وعادت مرة أخرى وتكرر الأمر، وعادت ثالثة فكررها معها، وحين أتته المرة الرابعة، أظهر أشعب البكاء والنحيب وقال لها عظَّم الله أجرك لقد مات الدينار في نفاسه، فصرخت فيه الجارية؛ وهل يموت الدينار؟ فقال أشعب يا فاسقة تصدقين بولادته ولا تصدقين بالنفاس!
أشعب وتلاعب الفقهاء بالقرآن:
كعادته في سلاسة تقديم النقد اللاذع والسخرية من الأوضاع؛ جلس أشعب في مجلس الخليفة وكان الخليفة يأكل حلوى، فأعطاه واحدة منها فأكلها، ثم قال (ثاني اثنين) فأعطاه الخليفة الثانية، فأضاف وعززنا بثالث، فأخذ الثالثة وأكلها، ثم قال (خذ أربعة من الطير) فحصل على الرابعة، وهكذا حتى وصل إلى قوله تعالى (إن عدة الشهور عند الله اثني عشر شهرا) فأعطاه الخليفة الطبق كله.. فقال له أشعب والله إن لم تعطني إياه وصلت إلى (فأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون).
ولم يسلم عموم المجتمع من نقد أشعب اللاذع، فحين أمَّ الناس خفَّف الصلاة بشكل ملحوظ؛ فقال له الناس خففت صلاتك؟ فقال لأنه لم يخالطها رياء، فأشعب في كل نادرة وكل طرفة كان عميقا، ناقدا ساخرا، انطلق من الحاجة والجوع والفقر، وانتقد أسبابها، ومسببيها، والمجتمع الصامت عليها، ودثَّر هذا كله بما أشاعه عن نفسه من طمع وتطفل وجشع، وحمق.
عني الجاحظ والإمام الذهبي وابن كثير بأخبار أشعب وغيره من الطفيليين ، وتصدر أشعب طبقته ، لكنهم حصروها في إطارها الخبري ، ولم تدرس كظاهرة احتجاج اجتماعية تمثل وثيقة فنية تاريخية تحمل العديد من الدلالات السياسية والاجتماعية والأدبية ، فالطفيلي في حجاجه واحتياله هو ثائر في زمنه على المجتمع يقتنص حقه في العيش بالنكتة ، ويواجه خصمه بالحجج التي لا تنتمي في كثير من الأحيان لمنطق العقل؛ بل للمناظرة البلاغية التي تقارع الحجة بالحجة. وبالبلاغة ورسم البسمة على وجه المتلقي (صاحب الوليمة) من أجل هزيمته ومشاركته طعامه.