الموقع الرسمي للإخوان المسلمون

رسالة الإخوان

رسالة فضيلة القائم بأعمال فضيلة المرشد العام

الهجرة … في اللحظة الفاصلة

الهجرة … في اللحظة الفاصلة

الحمدلله.. والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله ﷺ وعلى آله وصحبه ومن والاه.. وبعد

كانت التهيئة الربانية للنبي صلى الله عليه وسلم بحدث عظيم سيغير وجه الكون، يوم كادت قريش لقتله صلى الله عليه وسلم، حينما اجتمع أربعون فتى من قريش مدججين بالسلاح في جنح الظلام حول بيت رسول الله، ليضربوه ضربة رجل واحد، فيتفرق دمه بين القبائل. وتموت دعوة الإسلام في مهدها "وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ". (آل عمران:54)

لقد كانوا يريدون البقاء على جاهليتهم وضلالهم… يعبدون أصناما لا تنفع ولا تضر.. تصنعها أيديهم ثم يخرون لها سجدا.. يأكلون الربا.. ويستحلون الخمر والزنا.. و يئدون البنات خشية العار .. ويأكلون أموال اليتامى والضعفاء.. ويُغِير بعضهم على بعض، وتشتعل الحروب والثارات بينهم على غير سبب، حتى قال قائلهم: 

وأحيانا على بكر أخينا  *  إذا لم نجد إلا أخانا 

وجاء محمد صلى الله عليه وسلم يدعوهم إلى الإسلام والتوحيد.. وإلى الرفعة والحضارة، إلى عبادة الله وحده وهجر الأصنام.. إلى إحقاق الحق وإبطال الباطل وإنصاف المظلوم وردع الظالم.. إلى تحرير العبيد وتكريم المرأة وإنصافها.. يدعوهم لمكارم الأخلاق وطهر الظاهر والباطن.. ويدعوهم إلى الوحدة والتآلف والعزة والرفعة بعدما كانوا يعيشون خدما للقوى الكبرى؛ فارس في الشرق والروم في الغرب. 

أبوا ذلك كله وقاوموه تارة بالتشويه والسخرية، وتارة بالإيذاء والتعذيب، وتارة بالحصار والتجويع، ثم انتهى بهم المطاف إلى التآمر على قتله، قال تعالى: "وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُوا اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكرين" (الأنفال:30)

وفي اللحظة الفاصلة جاءه الأمر من الله تعالى إلى النبي صلى الله عليه وسلم بالخروج والهجرة. وكان قد أعد عدته، وجهز راحلته، واختار الصاحب والرفيق، وانتدب الدليل، واتخذ من الأسباب ما اتخذ، فسلك طريقاً غير معهودة، وتأخر ثلاثة أيام في غار ثور وكانت لحظة الخطر، حين قال صاحبه: (لو نظر أحدهم إلى قدميه لرآنا) فنطق اليقين فى قلب رسول الله: (ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟ لا تحزن إن الله معنا)…وبعد جهدٍ جهيد، ومعجزاتٍ عظيمة في الطريق، وصل الحبيب ﷺ إلى يثرب؛ تلك المدينة التي كانت تشتاق لرؤيته، وتتعطّش لهداه. فخرجت عن بكرة أبيها تستقبله بالترحاب وهتفت نشيدها الخالد:

طلع البدر علينا  *** من ثنيّات الوداع 

وجب الشكر علينا *** ما دعا لله داع

أيها المبعوث فينا ***جئت بالأمر المطاع 

ومنذ تلك اللحظة، تحوّلت (يثرب) إلى (المدينة المنوّرة)، عاصمةً للأمة الإسلامية الوليدة. وأسلمت القياد لرسول الله ﷺ، وحكم الشريعة والقرآن، فارتقت وعلت، وخرج منها النور إلى ربوع العالمين، يحمل رسالة الإسلام، والعدل، والرحمة، والحرية.

واليوم وبعد عدة قرون، ما زال كيد الجاهلية الأولى يحاصرالإسلام وأهله، وأمة الإسلام يتكالب عليها الصهاينة المعتدون، والصليبيون الحاقدون  يحتلون أرضهم، ويغتصبون أموالهم وثروات بلادهم، ويخرجونهم من ديارهم، ويريدون هدم مقدساتهم؛ بدءًا من المسجد الأقصى، وانتهاءً بمكة والمدينة. 

لقد أعلنوا ذلك اليوم جهارًا نهارًا، بعدما أخفوه بالخديعة لعقودٍ طويلة، يحملون توراتهم المحرّفة، ويزعمون بها حقوقًا مقدّسة تبيح لهم سفك الدماء، وانتهاك الحُرُمات، وقتل الأطفال، وحرق الأحياء، وتدمير البيوت والمشافي، والمساجد والمدارس والجامعات، وكل مظاهر الحياة.

لكن المجاهدين في أرض فلسطين المباركة صبروا… وقاوموا جحافل الشر، صنعوا أسلحتهم بأيديهم، بذلوا الدماء، ووهبوا الأرواح، ضحّوا بكل شيء… صمدوا أمام الحصار والتجويع، وواجهوا القتل والدمار، رغم خذلان القريب قبل البعيد، وتآمر القوى الكبرى وتواطؤ الأنظمة.

واليوم..

قد اقتربت اللحظة الحاسمة، بعدما تمحّص الصفّان:

• فريق الشر والعدوان، والقتل والتجويع والحصار والدمار…

• وفريق الطُّهر والنقاء، والمقاومة والصمود، والتضحية والفداء….

 وسيأتي نصرُ الله للفئة المؤمنة من حيث لا يحتسب الفريقان، بتدبيره وحده، بعد أن تنتفي تدابير البشر، "حتى إذا استيأس الرسلُ وظنّوا أنهم قد كُذِبوا، جاءهم نصرُنا، فنُنَجِّي من نشاء، ولا يُردّ بأسُنا عن القوم المجرمين".

وإذا كان أهلُ الباطلِ يتشبثون بباطلهم، ويستشهدون بكتبهم المُحرّفة، فأولى بأهل الحقّ أن يستمسكوا بحقّهم وكتابهم، الذي "لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ ۖ تَنْزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ" (فصلت:42) 

وقد جاءت فيه النصوصُ الواضحة والمبشّرة بالنصر القريب: "فإذا جاء وعدُ الآخرة جئنا بكم لفيفًا"، "فإذا جاء وعدُ الآخرة ليسوءوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة، وليتبروا ما علَوا تتبيرًا".

وهنا، تتجلى بشارةُ النبيّ الصادق، صلى الله عليه وسلّم "لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا اليهود، فيقول الحجر أو الشجر: يا مسلم، يا عبد الله، هذا يهودي ورائي، فتعالَ فاقتله".

إنها المواجهة (من المسافة صفر)، ينتصر فيها المقاومون الأبطال الشجعان، ويفرّ فيها الغاصبون الجبناء، الذين هم (أحرصُ الناس على حياة) وإن كانت حياةَ دنسٍ وغرورٍ وفجور.

أيها المجاهدون الأبرار، في أكناف بيت المقدس، في غزة والضفة وكلّ فلسطين، (اصبروا وصابروا ورابطوا)،  فقد بذلتم أقصى ما في وسعكم، ولم يبقَ إلا تدخّل الإرادة الإلهية في اللحظة الحاسمة، التي نراها وشيكةً وقريبة.

أيها العرب والمسلمون، شعوبًا وحكومات، هبّوا لنجدة إخوانكم، قبل أن تجتاحكم جحافلُ عدوكم، وقد أسفر عن أنيابه، وكشف عن حقده وتعصّبه، وعن أطماعه في بلادكم كما في بلادهم.

أيها الأحرار في كلّ العالم، قفوا مع الحقّ في وجه الباطل، وانصروا المبادئ الإنسانية، كي ينعم الإنسان بالأمن والأمان، والحرية والسلام، بعدما طغى الأشرار وتجبّروا، وأفسدوا في الأرض، وظنّوا أنهم (شعب الله المختار)، الذي يجب أن تدين له البشرية بالخضوع والذلّة. والله تعالى يقول فيهم: "كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا ۚ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ" (المائدة:64)

وفي انتظار وعد الله، نُخلِص النيّة، ونبذل الجهد، ونعد العدّة.

{وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (يوسف:21)
 

الدكتور صلاح عبد الحق

القائم بأعمال فضيلة المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمون

الخميس 1 محرم 1447هـ؛ الموافق 26 يونيو 2025م