من مصادر قوتنا
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله ومَن والاه.وبعد.
فإنَّ الناظرَ في أحوال عالمنا اليوم لا بدَّ أن يسترعي انتباهه ثلاثة أمور: الأول: أنَّ ظلمًا هائلاً وعدوانًا طاغيًا يتعرض له عالمنا الإسلامي على مختلفِ الأصعدة: السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والفكرية، وهو ظلمٌ يستدعي في الذاكرة الإسلامية حديث رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الذي يتحدث فيه عن تداعي الأمم علينا كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها، تغريهم في ذلك غثائيتنا ونحن كثير، وخور عزائمنا، ووهن دواخلنا، وانتزاع المهابة منا، وهو حال من التراجع الحضاري المرهق الذي أصاب أمتنا منذ عقود من الزمن تكالبت فيها عوامل الشر في الداخل والخارج حتى أوصلتنا إليه، وها نحن أولاء نرى احتلالاً عسكريًّا جاثمًا على صدورِ شعوبنا في أفغانستان والشيشان وكشمير، وفي فلسطين والعراق وغيرها، ونرى تبعيةً سياسيةً مذلةً من معظم أنظمة الحكم في بلادنا التي هجرت منذ زمن بعيد مواطن العزة، فخسرت مرضاة شعوبها ودارت في سلسلةٍ معتمةٍ من الاستبداد والقهر، تضمن بها إطالة عمرها، ورفاهة عيشها على حسابِ الأمةِ الثكلى، وها نحن نعيش حصارًا اقتصاديًّا وعلميًّا خانقًا، يستهدف إبقاء أمتنا بقرةً حلوبًا لقوى الاستكبار العالمي، دائرة في فلكها، فاقدة أسباب النهوض والرفعة، ونعيش أزمات مجتمعية عاتية تستهدف تعزيز فرص الاختلاف بين أبناء الوطن الواحد، والاحتراب الداخلي فيه، وانكفاء كل طائفةٍ، بل كل فرد، على ذاته، بعيدًا عن الكُلفةِ العالية للعناية بالشأن العام، مع محاولة إفقاد هذه الأمة منعتها الحضارية وهويتها الإسلامية.
الأمر الثاني: الذي لا تخطئه عين الناظر في واقعنا اليوم أنَّ صحوةً هامةً تنتاب عالمنا الإسلامي، وهي صحوة شاملة، لا تقتصر على قطر دون آخر، مما يؤكد أنَّ المشروعَ الغربي الذي يستهدف العدوان على أمتنا وتركيعها وفرض المفهوم الحضاري الغربي عليها يتجه إلى فشلٍ ذريعٍ بإذن الله.
الأمر الثالث: أن دعائم هذه الصحوة ومعالمها ومنابعها ومواردها- في تيارها العام الزاخر- هي الإسلام برؤيته الحضارية الشاملة، ومنهجه الوسطي العادل، مما يعني أن صحوة هذه الأمة ليست مجرَّد رفضٍ للظلم الواقع عليها، أو مقاومة للعدوان الصارخ ضدها، بل إنها تمتلك مشروعها الخاص النابع من دينها، والمتسق مع هويتها، وأنَّ تلك الصحوةَ قد حققت- بفضل الله، ثم بتضحيات أبنائها وتواصل عطائهم وتضحياتهم وجهادهم في ظروف غاية في العسر والمشقة- نجاحاتٍ ملحوظة، عززت مواقعها، وعمَّقت الثقة في صحة مسارها وقدرتها على تحقيقِ غاياتها بإذن الله.
وإنَّ ما نراه في الآونة الأخيرة من سعار العدوان علينا وتعاظم الظلم لأمتنا لهو دليلٌ على استمرارِ بقائها، وامتلاكها أسباب الحياة وقدرتها على المطاولةِ والمصابرة بعد ما ظنَّ الآثمون أنها قد أوشكت على الموتِ والزوال.
وها هم يرون خيبة مسعاهم، وبوار كيدهم.
المصدر الأول لقوتنا: الإيمان والوحدة ولسنا نعجب أن يتترس أعداؤنا بمنطلقات دينية في حربهم ضد أمتنا، فهم يفعلون ذلك على امتدادِ تاريخهم، والأدلة على ذلك تملأ كتب التاريخ، وإن كانوا يجيدون تسويق الوهم والخداع لنا، زاعمين أنَّ سياستهم لا صلةَ لها بالدين، وأنه ينبغي لنا أن نُقيم سياستنا على ذات الأساس.
لقد أعلن قادة اليهود الصهاينة منذ أول أمرهم أنهم يقيمون دولتهم في فلسطين المغتصبة على أسس ومنطلقات توراتية.
وكان الرئيس الأمريكي بوش الابن واضحًا حين أعلن أن حربه على العراق حرب صليبية، وأنَّ الله تعالى كلفه بذلك، ثم أعلن رئيس الوزراء البريطاني توني بلير مؤخرًا أنه استخار الله تعالى قبل الحرب على العراق، فوافقه على ذلك العدوان الأثيم.
ولسنا ندري عن أي رب يتحدثون والله (يأمر بالعدل والإحسان)، ودينهم يحض في أصله على المسالمة والصفح، وقد قال المسيح عليه السلام: "من لطمك على خدك الأيمن فأدر له الأيسر أيضًا"، وقال:"من نازعك رداءك فأعطه ثوبك"!! ولكننا لا ندري أيضًا هل يجرؤ حاكم مسلم على الجهر بأنه استخار الله تعالى في أي أمرٍ من أمورِ رعيته؟؟ وماذا يمكن أن يُقال عنه وقتها؟؟ إنَّ الإيمان بالله لدى جماهير أمتنا هو الذي منحها الصبر على ما تعرضت له من عدوان، ومنحها الاعتقاد بعدالة قضاياها، ومنحها الأمل في النصر حين تخلت عنها قوى الأرض، وحين أسلمها حكامها لأعدائهم بالصمت حينًا، وبالتواطؤ والمشاركة حينًا آخر.
والإيمان هو الذي أبقى لهذه الأمة وحدتها حين حاول أعداؤها تفريقها أممًا، وأقاموا بينها الحواجز السياسية المصطنعة، ومضوا في التحريش بينها، واختلاق أسباب الخُلف والشقاق فيها، فأبقى الإيمان لها دينًا تتحد حوله، وربًا تتعبد إليه، ورسولاً تحبه وتتبعه، وقبلة يتجهون إليها كل يوم في صلاتهم، وشعائر وعبادات تجمعهم، ولا تستطيع قوة في الأرض منعهم منها، وبفضل هذا الإيمان وتلك الوحدة يشعر المجاهدون والممتحَنون في كل قطر أنَّ ملايين القلوب تهفو إليهم، وملايين الأيدي ترتفع إلى السماء لتدعو لهم وتستنصر لهم.
فهل ينتبه العقلاء في أمتنا إلى ما يراد بوحدتهم، وما يُدبَّر لهم من تشرذمٍ واختلافٍ، ليسهل على أعدائهم النيل منهم؟؟ وهل يتنبه أهلنا في العراق- وهم أبناء قبلةٍ واحدةٍ وأتباع دينٍ واحد، وأصحاب كفاحٍ مشتركٍ وقضيةٍ واحدة- بما يُنصب لهم من شَرك الفتنة الأهلية والحروب الداخلية بين سنَّتهم وشيعتهم وأكرادهم وعربهم وتركمانهم؟؟ والإسلام هو الذي أبقى لأمتنا وهي تعاني الظلم والعدوان تلك الأرضية الحضارية المستنيرة التي تتواصل مع أمم الأرض، وتؤمن بالحوار والتعايش لا التدابر والتباغض والصراع ﴿وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ (الحجرات).
وعلى ذلك فنحن في جهادنا من أجل حياة عزيزة تليق بأمتنا لا نشعر أننا معزولون عن عالمنا، بل نحن في قلوبِ الأحرار منه والشرفاء فيه الذين يقفون معنا في خندق واحد ضد تغوّل الشر والعدوان.
ونحن أصحاب دين يملك من القوة الذاتية ما يمكنه من الانتشار والإقناع والتواصل مع الفطرة السليمة، ويكتسب في كل يوم أنصارًا جددًا وأرضًا فسيحةً، ولا يزيده عدوان المعتدين إلا قوةً وبهاءً، فكيف لو وجد من أبنائه وقادته مَن يتهيأ للدعوة إليه على نحو مؤسس واثق، لتكسب قضايا أمتنا على امتداد العالم من يتفهمها ويدافع عنها، ويقف في وجه الظالمين المستكبرين؟ ذلك الحصار العلمي الجائر وأفصح الرئيس الأمريكي- وهو عادة لا يجتهد في إخفاء مقاصده- عن جانب من الحصار العلمي الجائر الذي تتعرض له أمتنا في جولته الآسيوية الأخيرة، حيث صرح في زيارته للهند عن مزيد من التعاون معها في مشاريعها النووية، على حين ضن بمثل ذلك عن جارتها باكستان المسلمة، واكتفى بأن طالب حكام باكستان بمزيد من مساعدته في حرب ما أسماه بالإرهاب، ويكتمل المشهد بعد أيام قلائل، حيث أحيل الملف النووي الإيراني إلى الأمم المتحدة توطئة لاتخاذ إجراءات عقابية ضدها بسبب إصرار إيران على امتلاك التكنولوجيا النووية للأغراض السلمية، في ذات الوقت الذي تغض فيه أمريكا والعالم الغربي الطرف عن الكيان الصهيوني الذي يمتلك ما يربو على مائتي قنبلة نووية بالفعل، يهدد بها جيرانه غير المسموح لهم بمجرد التفكير في امتلاك نفس السلاح للردع، بل إن الدولة الصهيونية القائمة على العدوان تمثل في الحقيقة خطرًا على الأمن والسلم الدوليين، وهي تجاهر بالتلويح بالقوة وتمد مظلتها الجوية والنووية لتشمل مزيدًا من أجواء عالمنا الإسلامي، وذلك قليل من كثير مما تتعرض له أمتنا من حصار في مجال العلم والتقنية العالية، لتبقى عالةً على غيرها في الحاضر والمستقبل، وقد آن الأوان لكي تأخذ حكوماتنا زمام المبادرة في التصدي لذلك الحصار الجائر، وأن توجه نفقاتها المالية للاستثمار في علوم المستقبل كيلا تتعاظم جنايتها على الأجيال القادمة.
إن ما ينفقه الكيان الصهيوني على التعليم يفوق ما تنفقه الدول العربية مجتمعةً بعشر مرات، بينما تتجه أموال شعوبنا إلى تكريس بقاء أنظمتها الحاكمة، أو تنفق في سرف مجنون وترف مستفز هنا وهناك.
وإن لدينا ثروة هائلة ينبغي التنبه لها والإفادة منها، وهي آلاف العلماء العرب والمسلمين المهاجرين من خيرة أبناء هذه الأمة الذين يدرسون في جامعات أوروبا وأمريكا، والذين لا يتوافر حتى الآن حصر دقيق بهم، ولا تصور متكامل للتواصل معهم، وإن أشارت بعض الإحصاءات إلى وفرة أعدادهم ودقة تخصصاتهم، فعدد العلماء المصريين وحدهم في جامعات الغرب يزيد على 650 عالمًا في العلوم التطبيقية والتقنية وحدها.
ويجب إقامة جسور التواصل مع هؤلاء العلماء، ووضع التصور الدقيق للإفادة منهم، والحفاظ على بقائهم مشدودين إلى قضايا أمتهم، وهموم شعوبهم.
الثقة في الشعوب وقدرتها إننا يجب ألا نظل صرعى ذلك الفصام النكد بين الشعوب وحكامها، وبخاصة في هذه الفترة العصيبة من تاريخنا، ونحن على يقين من أن شعوبنا جديرة بالثقة، حقيقة بأن تتطلع إلى عالم أفضل هي مستحقة له، إن هذه الشعوب هي التي صمدت طيلة العقود الماضية في وجه العدوان، وهي التي قدمت التضحيات الجليلة لتحقق للأمة العزة والكرامة، وهي التي تصدت للغزو السوفيتي في أفغانستان والغزو الروسي في الشيشان، وهي التي تتصدى للعدوان الأمريكي في العراق، وتدفع من دماء أبنائها كل يوم تبعات ذلك الصمود والتآمر الخسيس ضدها، وهي التي أجبرت المشروع الصهيوني على التراجع في أطروحاته النظرية، وفي واقعه العملي في فلسطين، وهي التي وقفت في وجه محاولات التذويب الثقافي والتطويع الفكري، واحتفظت بهويتها الإسلامية الخالصة رغم ضخامة الكيد ومكر الليل والنهار، وهي التي اقتنعت طوال الوقت بقدرة مشروعها الإسلامي وصلاحيته وخلوده.
وإننا لعلى يقين من أن أنظمتنا الحاكمة تخسر الكثير حين تصر على تجاهل حقوق هذه الشعوب وطلائعها الإسلامية المخلصة، وأن استمرار ذلك النهج من الإقصاء والاستبداد وخيم العواقب، وهو خصم من رصيد هذه الأمة، وتبديد لحاضرها ومذخور قواها.
إن مصادر القوة في أيدينا كثيرة، وعلينا أن نحسن التعامل معها، وأن ندرك حقيقة أن مستقبل هذه الأمة لن يصنعه إلا أبناؤها، وأن إصلاح أحوالها لن يظل مرهونًا أبد الدهر برضا أعدائها أو وكلائهم في بلادنا.
﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾.
9 من صفر 1427هـ= 9 من مارس 2006م