إستراتيجيات المواجهة الشعبية
مضى زمنٌ توالت فيه هزائمُ الأمةِ وانتكاساتها، وتعمَّق تخلُّفها على أيدي أنظمةِ الحكم السائدة فيها، وبدأت الأمة تتململ في رقدتها وتصحو على قرعِ الضرباتِ المتوالية الموجهةِ إلى رأسها، وعلى أوجاعِ السهام النافذة في جسدها وبدأت صحوة أحدثت مفعولها الكبير في صفوفِ أبناء الأمة.واجهت الصحوة واقعًا مؤلمًا يتمثَّل في تحالفِ قوى الاستبداد والفساد من الداخل والاستعمار والاستكبار من الخارج الذي يأبى أن يسلم بحقِّ الشعوب التي خلقها الله حرةً فاستعبدوها، كريمة فأهانوها، تروم العزة فأذلوها، ومن أجل ذلك تستمر "المغالبة" بين الجانبين، ولكنها ستنتهي لأصحابِ الحق إن شاء الله ﴿لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ﴾ (الأنفال: من الآية 8).
وتقود قوى الاستعمار والاستكبار منذ أكثر من نصفِ قرنٍ وريثة الاستعمار الأوروبي، الولايات المتحدة الأمريكية، وهي في الحقيقة لا تستهدف المنطقةَ العربيةَ والإسلامية وحدها وإن كانت منطقتنا تحظى بأولوية خاصة بسبب التحالفِ الشيطاني القائم بين واشنطن والكيان الصهيوني منذ نشأته على أرض فلسطين المغتصبة.
وتاريخ التدخل الأمريكي في العالم تاريخ أسود ويكفي أن نسرد ما كان منها منذ منتصفِ القرن الميلادي الماضي: الحرب الكورية عام 1950م- م1953- إسقاط حكومة مصدّق في إيران عام م1953 - التدخل المسلح ضد جواتيمالا في عام م1954- إنزال مشاة الأسطول السادس في لبنان عام 1958م؛ تمهيدًا للتدخل في العراق بعد إسقاط النظام الملكي- حصار كوبا منذ عام 1959م، حتى اليوم ودعم العدوان عليها عام 1961م، وشن الحرب البيولوجية عليها عام 1981م- إسقاط حكومة لومومبا في الكونغو وقتله في عام 1960م- إطلاق الرصاص على المتظاهرين في بنما عام 1964م- الاعتداء على لاوس- 1964م – 1973م - حرب فيتنام- 1964م- 1973م، فضلاً عن دعم العدوان الصهيوني الغاشم على فلسطين.
فلا غرو أن تكره الشعوب السياسة الأمريكية وتعتبرها العدو الأول للأمن والاستقرار في العالم، وقد نشأت في بلاد العالم الكثير من الحركات الشعبية المناهضة لسياسات الهيمنة الأمريكية في أوروبا وأمريكا الجنوبية وغيرها.
وفي منطقتنا العربية قامت منذ ثلاث سنوات "الحملة الدولية ضد الاحتلال الأمريكي والصهيوني"، والتي عقدت مؤتمرها الرابع في الأسبوع الماضي بنقابة الصحفيين بالقاهرة، تحت عنوان "مع المقاومة في فلسطين والعراق.
وضد العولمة والإمبريالية والصهيونية" بمشاركة فاعلة من عدة أحزاب وقوى ومنظمات عربية وبحضور شخصيات من أوروبا وأمريكا، واستمرَّ انعقاد المؤتمر أربعة أيام وشهدت جلساته حوارات ونقاشات واسعة وورش عمل مثمرة، شاركت فيها فئات مختلفة من الجمهور، وكان حضور شباب الإخوان المسلمين وطلابهم على وجه الخصوص مميزًا وفاعلاً.
وقد خلص المؤتمر إلى عددٍ من التوصياتِ المهمة التي يُعلن الإخوان المسلمون تبنيهم لها ويأملون أن تتكاتف القوى الشعبية في تحويلها إلى برامج عمل تساعد في الخلاص من واقع التبعية والاستبداد: أولاً: أننا بحاجة لبناء إستراتيجية عربية شعبية في مواجهة الإستراتيجية الأمريكية والصهيونية؛ إستراتيجية مواجهة تتعمق جذورها في وجدان الشعوب العربية لتعرف عدوها وتفهم أهدافه، وتحذره وترفض التطبيع معه، ولا تنخدع بمكره ودهائه، وتسلك سبيل مواجهته ونشر ثقافة مقاومته.
إستراتيجية مواجهة تتبني وتدعم المقاومة الشرعية والمشروعة في فلسطين والعراق وأفغانستان وكل بلد عربي أو إسلامي يتعرض للغزو، وترفض أي مساومة على حقوق الشعوب الواقعة تحت الاحتلال، كما ترفض الاعتراف بالاحتلال واغتصاب الأوطان أو أي قطعة منها مهما كانت الوعود المعروضة والعهود المقطوعة، التي ثبت أنها لا تعدو أن تكون سرابًا يحسبه الظمآن ماء.
نحن بحاجة إلى إستراتيجية مواجهة تنشط الحركات الشعبية والمدنية لتفعيل المقاطعة الاقتصادية للمحتلين، وفتح اكتتابات شعبية لدعم المقاومة ومساعدة إخواننا المنكوبين بالاحتلال وإرسال المساعدات المالية والعينية لهم وتشكيل لجان دعم المقاومة في مختلف أرجاء أوطاننا، لننتقل من الدعم إلى المشاركة؛ فالقضية قضيتنا جميعًا، والعدو يستهدفنا جميعًا، وليس من العدل ولا من المروءة أن نبقى نتفرج على أهل الثغور الذين يصدون عنا جائحة العدوان.
نرفض تنازل الحكومات كما أننا بحاجةٍ إلى إستراتيجية شعبية ترفض تنازل بعض الحكومات العربية وتضغط على تلك الحكومات لرفع سقف مطالبها ليوازي سقف المطالب الشعبية، التي هي شرعية ومشروعة، وقطع كل علاقة أو اتصال مع الكيان الصهيوني في المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية وغيرها, ومضاعفة الدعم المقدم لإخواننا في فلسطين وحكومتهم المنتخبة، والتصدي للمخططات الأمريكية والصهيونية في المنطقة فضلاً عن المشاركة فيها.
إستراتيجية مواجهة ترفض تكرار مآسي فلسطين وأفغانستان والعراق في سورية أو إيران أو السودان أو غيرها وإذا كانت قوى الطغيان العالمي قد كسبت جولة أو أكثر فإن حرب الحرية لا تزال مستمرة وعلى الشعوب العربية والإسلامية أن تحول دون تكرار الهزيمة مرة أخرى.
الاستبداد حليف الاستعمار ولا يخفى على كل ذي لب الرباط الوثيق الذي يجمع بين الاستبداد والاستعمار، فالأول حليف تابع للاستعمار، وقد ثبت من تجربة فترة ما بعد الاستقلال من الاستعمار الأوروبي القديم أن الاستقلال الكامل لا يتحقق إلا بحصول الشعوب على كامل إرادتها وحقها في اختيار من يحكمها ومَن يمثلها اختيارًا حرًّا، تمنح ثقتها لمن تشاء وتنزعها ممن تشاء حين تشاء، وبدون ذلك فلا استقلالَ ولا حريةَ بل تبعية وهوان، وحكام مستعدون للتسليم للعدو بأكثر مما كان يفكر فيه أو يطمح إليه.
إن الاستبداد هو أشبه بالحبل الغليظ الذي يلتف حول أعناق الشعوب فيكاد يخنقها، ويلتف حول أجسادها فيشل حركتها، وتساق به إلى أوحال التبعية والهزيمة والانكسار.
ولذلك فنحن بحاجة إلى إستراتيجية مواجهة من أجل حركة تغيير عربية خالصة ضد تحالف الاستبداد والفساد، كما نحتاج إلى مناصرة قوى التغيير الفاعلة وبخاصة القضاة والصحفيين والكتاب والمثقفين، وأساتذة الجامعات وطلابها، الذين يمثلون في مصر الآن على وجه الخصوص بعض طلائع التغيير.
علينا أن نقول للعالم إننا أمة غنية بديننا ورسالتنا وتاريخنا وتراثنا، وبرجالنا وشبابنا، ولا نحتاج إلى دروس في كيفية إدارة شئون أمورنا.
وإنما أخَّر هذه الأمة الظلمُ الذي وقع عليها من أنظمتها السياسية وتدخلات الغريب الطامع المتلمظ.
وحرية الأمة وممارستها لإرادتها الحرة الكريمة، وتقرير مصيرها واختيار حياتها بحكمة ورشد لا يأتي منحة من غريب، ولن تُقدِّمه الحكومات عن شفقة ورحمة، وإنما يؤخذ بوعي الشعوب وجهدها وجهادها وعودتها للإسلام، واستكمال شروط النهضة الصالحة الناجحة.
ومما يضع الشعوب على طريق الحرية والاستقلال الحقيقيين انتشار الوعي الديني الصحيح الذي يُثري الشعور بالكرامة، والتَّوق إلى الحرية، والإنشداد للحق والعدل، وتعميمُ ثقافة الحقوق بين مختلف فئات المجتمع ومكوِّناته.
القاهرة في: 30 من صفر 1427هـ= 30 من مارس 2006م