الشعوب بين مطرقة أمريكا وسندان الاستبداد
الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على سيدنا محمدٍ النبيِّ الأميِّ الأمينِ، وعلى آله وصحبه والتابعين بإحسان إلى يوم الدين، وبعد.العقولُ المستبدةُ والأنظمةُ الديكتاتوريةُ لا تستهدفُ إلا الشعوبَ ومقدراتِها لتستمدَّ من استنـزافِهِما قدرتَها على البقاءِ وتحقيقَ حلمِها في السيطرةِ والتسلطِ.
منطقٌ قديمٌ وحديثٌ، باقٍ بقاءَ الصراعِ بين الحقِّ والباطلِ، بين سالبِي الحقوق وأصحابِها، بين الساعين للحقيقةِ والمزيِّفين لها، صراعٌ يتذرَّع المستبِدُّون فيه باستئثارِ الحقيقةِ!! غيرَ أنَّ مَن يرَون في أنفسهم قدرةً على أنْ يأسِروا العالمَ ويُخضِعُوه لأهوائهم- مثلَ ما يفعلُ "بوش" الابنُ ومَن حولَه- لم يقرأوا التاريخَ جيدًا؛ ليعلَموا مصيرَ البغيِ والعدوانِ بغيرِ الحقِّ، فراحُوا يكرِّرون فعلَ "أتيلا" ملك الهون، المملكة البربرية التي سَوَّل البغيُ لمَلِيكِها أنه قادرٌ على امتلاكِ العالم، فكان مآلُه ومَملَكتِهِ الدمارَ والفُرقةَ، ويسيرون على دربِ "نيرون" دون أن يَعُوا أنَّ آخرَ دربِه نارٌ تأتي على الأخضرِ واليابسِ بعد أن تحرقَهم ومطامعَهم.
!! ارتدَى "بوش الابن" ومَن حولَه حُلَّة "الطغيان" وتوشَّحوا بِوِشَاحِ "التجبُّر" ورَاحُوا يحلمون بمَجْدِ "القياصرة" دون أن يعلموا أنَّ للتاريخِ دوراتٍ، وأن عجلَتَه سرعانَ ما تأتي على كلِّ باغٍ.
فلقد قال بطانةُ "فرعون" له: ﴿أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ﴾ ؟ (الأعراف: من الآية 127) فأجابَهم بلسانِ الكِبرِ: ﴿قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ﴾ !! (الأعراف: من الآية 127) فما كان مِن صوتِ الحقِّ إلا أن قالَ: ﴿قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِيْنَ﴾ (الأعراف: 128).
وعلى الباغي تدورُ الدوائرُ، وتبقَى الشعوبُ دائمًا لتسطِّرَ كتبُ تاريخِها سطورًا سوداءَ لكلِّ ديكتاتورٍ مستبدٍّ، ولتعلنَ على مسامعِ الخلقِ أنه ما ضاعَ حقٌّ وراءَه مُطالبٌ يجاهدُ في سبيلِ تحقيقِهِ، وساعتَها يتجسَّدُ وَعْدُ اللهِ للمستضعفين.
﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ(3 9) ﴾ (الحج) ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ(173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ(174)﴾ (آل عمران).
إنَّه ﴿وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ(6)﴾ (الروم).
تذكروا حصار شِعب أبي طالب بالأمسِ كانوا قلةً مستضعَفين، ومحاصَرِين بشِعبِ أبي طالبٍ لثلاثِ سنواتٍ، وكان بينهم خيرُ خلقِ اللهِ محمدٌ- صلى الله عليه وسلم- ولم يمنعْ وجودُه بغيَ البغاةِ وسعيَ أصحابِ المصالحِ وتربيطاتِ الساسةِ ومكائدَ شيطانٍ تمكنت من النفوسِ، فقُلب الحقُّ باطلاً والباطلُ حقًّا، واجتمعت "الإرادةُ الدوليةُ" قبل أربعةَ عشرَ قرنًا من الزمانِ على صحيفةِ مقاطعةٍ علَّقوها ببطنِ أقدسِ مكانٍ عرفتْه الأرضُ "الكعبة"، وهتف ذاتُ الصوتِ- صوت "بوش" المنبعث اليوم-: لا تُطعِموهم.
لا تُتاجِروا معهم.
لا تمنحوهم.
ولا ولا ولا، مقاطعةٌ تامةٌ، ومحاولةٌ لوأدِ إرادةٍ شعبيةٍ، وصبر الرجالُ صبْرَ نسائهم، كما تجلَّدت النساءُ تجلُّدَ رجالِهم، حتى جاء الفرجُ من عند اللهِ مؤذنًا ببدءِ عصرٍ جديدٍ، وساعتها حرَّك اللهُ روحَ الحِياد في قلبِ مشركٍ من قريش "هشام بن عمرو" فطالَب بتمزيقِ صحيفةِ المقاطعةِ التي لم ترضَ عن جَوْرِها حشراتُ الأرضِ، فأكلَتْها تاركةً اسم الحقِّ علامةً على الحقيقةِ "باسمك اللهم"!! واليومَ.
يقفُ أهلُ فلسطين في أرضِ الرباط مستضعَفين لقلةِ عتادِهم، مستقوين بسلاحِ عقيدتِهم، محاصَرِين بقُوى البَغْي، ومستعلِيْن بسموِّ قضيتِهم، تُحاصرُهم إرادةُ "بوش" المتدثِّرةُ بعباءاتِ مَن اجتمعوا يومًا بدارِ الندوةِ ليسطِّروا صحيفةَ المقاطعةَ، وتُحاصرُهم أذنابُه الساعيةُ لرضا الصهيونيةِ على حسابِ حقِّ الشعبِ الفلسطينيِّ في الحياةِ والاختيارِ، وتحاصرُهم قُوى العجزِ والصمتِ المكبِّلةُ لأنظمةٍ عربيةٍ وإسلاميةٍ، ويحاصرُهم أندادُ السياسةِ في الداخل الذين ظنُّوا أنَّ معركتَهم هي مع بني جِلدتِهم.
وهكذا يسعَى "بوش" إلى فرضِ "ديمقراطيتِه" على الشعوبِ، تلك الديمقراطية التي لا تقبلُ الاختلافَ، ولا تحترمُ إرادةً لشعبٍ، ولا تسير إلا في فلكِ مصالح الربيبة الأمريكية والتي ترفض كلَّ مَن يقول لها: "لا".
فكم سيطولُ حصار الانتصار الفلسطيني المنشأ.
الحماسي الصُّنع؟! ثلاث سنواتٍ يا فلسطين.
ثلاث سنوات يا حماس.
ثلاث سنوات يا شعب المرابطين؟! هنيئًا لكم السير على دربِ المصطفى- صلى الله عليه وسلم- هنيئًا لكم الصمود في معركة يُعيد التاريخُ رحَاها فما أنتم بأكرمَ على الله مِن محمدٍ- صلى الله عليه وسلم- ﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (21)﴾ (يوسف).
ولكن هل ترتضي كلُّ المنظماتِ الدوليةِ أن تتحوَّل إلى دارِ ندوةٍ جديدةٍ.
الأمم المتحدة دار ندوة.
ومجلس الأمن دار ندوة.
والمنظمات المانحة دار ندوة؟! وفي كلٍّ يبحث الجلوسُ عن وسيلةٍ جديدةٍ تُطمَسُ بها معالمُ الحقِّ وتَغيب فيها مشاعلُ النور!! ولكن أما مِن فردٍ يرتدي عباءةَ الحيادِ التي ارتداها "هشام بن عمرو" يوم أعلنَ مبادرتِه لتقطيعِ أوصالِ صحيفةِ الجورِ والمقاطعةِ!! إنَّ التاريخَ يبحث عمَّن ينال شرفَ الحيادِ ويحمل لواءَ العدلِ في عالمٍ أحاديِّ القطب، تحكمُه إرادةُ البيتِ الأبيضِ "دار الندوة" في القرن الحادي والعشرين، التي تحمل عنوانَ ديمقراطية الألفية الثالثة!! إيران ومعركة الحقوق المكفولة ولا عجبَ إذًا في تعدُّدِ أدوارِ العَداءِ الأمريكي للعالمَين العربي والإسلامي، فذاتُ اليدِ التي تَمنح الملياراتِ للعدو الصهيوني ليوسِّعَ ترسانتَه الحربيةَ هي التي تسعَى لإعلان الحرب على إيران؛ بدعوى سعيِها للتوسع في تطوير برنامجها النووي، وتبقى الأزمةُ الرئيسةُ في حال العَداءِ المتواصلِ من الحلفِ الأمريكيِّ ضد أمتِنا، والأطماع المتزايدة بمقدرات أمتنا الطبيعية والاقتصادية والإستراتيجية على المستوى الجغرافي والأمني، وبالتالي فالنَّهمُ في تقطيعِ أوصالِ البدن الإسلامي لا يتوقف، والسعيُ الحثيثُ من قِبَل بوش الابن نحو كل ما هو عربيٌّ وإسلاميٌّ لن ينقطع، والحُجَج لا أمدَ لأُفُقها: إسقاطُ الأنظمة المستبدَّة تارةً.
وتركيع الأنظمة المناوئة ثانيةً.
وفرض الإصلاحات ثالثةً.
ومكافحة الإرهاب رابعةً.
والبحث عن أسامة بن لادن خامسةً.
واستهداف الزرقاوي سادسةً.
وضرب المؤسسات النووية تارةً أخرى، وغيرها كثير من ذرائع يمرِّر عبرَها بوش فَيَالِقَه ومدمّراتِه وأسرابَ طائراتِه وكتائبَ جيوشِه؛ لتنعمَ شعوبُنا بديمقراطيتِه التي تقسِّم وتفرِّق وتنشر التفجيراتِ وتنتهك الحرماتِ وتقنن عملياتِ القتل والدمار والتعذيب.
من حقِّ كل دولِ العالم أن تتعاطَى النشاطَ السلميَّ النوويَّ.
يتساوى في هذا الحقِّ المستخدمُ البريطانيّ والهنديّ والإيرانيّ والمصريّ والليبيّ.
ومِن حقِّ إيران على الدولِ العربيةِ والإسلاميةِ أن تدعم موقفَها حتى لا تُتركَ وحيدةً في مواجهةِ الصلفِ الأمريكيِّ والاستكبارِ الغربيِّ الذي يَصبُّ أولَ ما يصبُّ في الصالحِ الصهيوني، ومن بعده يُوسِّع مدى التدخل في منطقتنا.
كما أنَّ مِن واجبِ إيران على جاراتِها العربيةِ والإسلاميةِ أن تؤكدَ لها حيادَها التامَّ مع الشأنِ العراقيِّ؛ حتى لا تفتح ثغرةً في الجدارِ الذي يحويها ودول الجوار لينخرَ منه سوسُ الطائفية الذي يحرِّكه المحتلُ في العراق متذرِّعًا به للبقاء، وبقدر إيران- بالتعاطي مع القضيةِ العراقيةِ كقضيةٍ إسلاميةٍ- بقدرِ ما تنظرُ الشعوبُ الإسلاميةُ إلى إيران على أنها جزءٌ من منظومةِ العالَمِ الإسلاميِّ، وبالتالي يُفرضُ على أمةِ البدنِ الواحدِ التلاحمُ معها في وجهِ ما تلقاه من تهديداتٍ.
فيا أنظمتنا العربية والإسلامية.
قِبْلَةُ المسلمين تستنصركم، فلئن كانت قُواكم عن نصرتِها قاصرةً فحسبُكم أن تُخَذِّلوا عنها ما استطعتم، فلا تكِلُوا مَن ارتضاها أهلُها حكومةً شرعيةً لهم إلى مجالسَ وقراراتٍ، يُحرِّكُها عدوُّها بأصابِعَ أمريكيةٍ، فإنها- حكومةُ حماس- إن لم تكن بكم كانت بقوةِ إيمانِها بقضيتِها وبالحقِّ النابعِ من قدسيةِ رباطِها.
أما أنتم يا ولاةَ الأمر في أوطاننا العربية والإسلامية فإنكم لن تكونوا إلا بصدقِ نصرتِكم لأولى قبلتِكم ومسرَى نبيِّكم محمد- صلى الله عليه وسلم- الذي أوصاكم: "المسلم أخو المسلم لا يَظلمه ولا يُسلمه ولا يَخذله" فاحذروا ظلمَ المجاهدين وإياكم أن تُسْلِموا رافعًا لذروةِ سنامِ الإسلام، واتقوا خذلانَ المرابطِ أو غلقَ الأبوابِ في وجهه وردَّ زيارتِه؛ حتى لا تدخلوا في قول الحق: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ(100)﴾ (آل عمران).
ويا جموع المسلمين.
لئن كان الواقع مظلمًا والظلم محيطًا.
إلا أنَّ إرادةَ الشعوبِ هي الأصلُ في معركةِ البقاءِ، مهما كانت المَطرقةُ الأمريكيةُ طاغيةً وسندانُ الاستبدادٍ متجبِّرًا، ولكم في التاريخ قدوةٌ، فإرادةُ الشعبِ المسلمِ- بدعم قائدِه محمدٍ صلى الله عليه وسلم- انتصرتْ في مكةَ وأقامتْ دولتَها التي سادَت، وما فعلَ عزُّ الدينِ القسامِ في فلسطين منكم ببعيد!! فلقد ارتضى أن تكونَ رُوحُه هي شرارةَ الثورةِ العربيةِ الكبرى، فليكُن إحساسُكم بعمقِ انتمائكم لدينكم هو الحافزَ على مواجهةِ الهجمةِ على أمتكم، واستعينوا بوحدتكم لنصرةِ المرابطين في فلسطين ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ﴾ (التوبة: من الآية 71) وعايِشُوا قولَ الحق: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ (الحجرات: من الآية 10)؛ لتصلوا إلى حقيقة التعاون المراد من قوله جل وعلا: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى﴾ (المائدة: من الآية 2).
ويا أيها الإخوان في كل مكانٍ.
لا تنسَوا أنكم ارتضيتم اللهَ غايةً والرسولَ- صلى الله عليه وسلم- قدوةً، فتحركوا صوبَ غايتِكم، حاملين رايةَ قدوتِكم في نصرةِ الحق والدعوة له والصبر عليه، واجعلوا على رأسِ أولوياتكم قضيةَ فلسطين، كونوا رُسُلَ دعوةٍ لنصرتها، ووسائلَ إعلامٍ تَذُود عنها، وسفراءَ لحكومتِها، تكسرُ الحصارَ المفروضَ عليها، شارحين دورَها، ومدافعين عن إرادةٍ انتخبتها وعن جهادٍ زكَّاها، وداعين لدعمِها عبرَ المنافذِ الشرعيةِ، ولا تنسوا المدَدَ الربانيَّ للنصرةِ، الذي يتنزل في ساعاتِ السحرِ ويفوزُ به كلُّ مجتهد ومشمِّر وراكع وساجد.
وكونوا على يقينٍ بأنَّ مطرقةَ أمريكا لن تدومَ وسندانَ الاستبدادِ لا يهزمُه إلا وعيُ الشعوبِ ﴿كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ(21)﴾ (المجادلة).
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.