عجز الحكومات.. بين الواقع والحل
رسالة من محمد مهدي عاكف- المرشد العام للإخوان المسلمين الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ومَن والاه.وبعد!! فقد أشارت رسالة الأسبوع الماضي إلى العدوانِ الصهيوني على الشعبِ الفلسطينيِّ الشقيقِ، وتمادي العدوِّ في طغيانِه، وقيامِه بعملٍ عسكريٍّ واسعِ النطاقِ ضد قطاع غزة، وقلنا إن الشعبَ الفلسطينيَّ استطاع رغم ذلك أن يضعَ العدوَّ الصهيونيَّ والولاياتِ المتحدةَ والمجتمعَ الدوليَّ في مأزقٍ، كما أنه وضعَ الموقفَ العربي الرسمي في مأزقٍ؛ إذ كشف ضعفَه وتخاذلَه حتى أصبح البعضُ حريصًا على سلامةِ الجندي الصهيوني الأسير أكثرَ من حرصه على سلامةِ أبناء وطنه وأبناء الشعب الفلسطيني!! وأُصيب الموقفُ العربيُّ الرسميُّ بالخرسِ وفقدانِ النطق، فلم نعدْ نسمع مجرَّد كلماتِ الشجب والاستنكار، رغم أنها لا ترد غائلةَ العدوان ولا تُسمن ولا تُغني من جوع.
وبشكلٍ عامٍّ فقد تراجع الموقف الرسمي العربي من التقصيرِ الفادحِ في دعمِ المقاومة إلى الصمتِ المريبِ على الجرائم الصهيونية، وصولاً إلى الظنِّ بتواطؤ بعض الأنظمة مع العدوِّ.
فما الذي أوصَلَنا إلى هذا الوضع البئيس؟! وكيف تدهور بنا الحال بعد أمجادٍ يتغنَّى بها الركبان؟! ثلاث علل رئيسة يمكننا تلخيص الأسباب المؤدية إلى ذلك الحال البئيس في ثلاث علل رئيسة: - بُعْد نُظمِ الحكم عن دينها وشرع ربها: وتنحية الشريعة والحكم بالقوانين الوضعية، وتخلي تلك النظم عن مهمتها الأساسية، وهي القيام على سياسةِ المسلمين بمتقضى حكم الشرع في أمورِ الدين والدنيا، فغابت بذلك المرجعيةُ وفُقِدت البوصلةُ التي تحدد الوجهة والمقصد، ولم تجنِ الشعوبُ من وراء ذلك سوى الضياع الذي تُعاني من آثاره في المجالاتِ الفكرية والتعليمية والثقافية والاقتصادية والسياسية والعسكرية والحضارية، وأصبح العربُ والمسلمون على كثرتهم ممزقةً أحوالُهم متفرقةً كلمتُهم كئيبةً أوضاعُهم، جاهلين وبيدهم مفاتيح قيادة العالم، فقراءَ وأرضُهم تحمل الخيرَ على ظهرها وفي بطنها، تحكمهم شريعةُ الغاب، وعندهم كتابٌ حكيمٌ، وسنةٌ مبينةٌ.
- انفصام النظم عن شعوبها، واستمدادها شرعية وجودها من الخارج: فالحكامُ لا يأتون للحكم بإرادة شعبية، وإنما يتولونه قهرًا وغلبةً، بانقلاباتٍ عسكريةٍ واستفتاءاتٍ مزوَّرةٍ، وتوريثٍ غيرِ شرعيٍّ، تدعم تلك الأشكالَ كلَّها تدخلاتٌ خارجيةٌ لا تراعي مصالح الشعوب، بل تضع نصبَ أعينها مصالحَ القوى الخارجية، وقد تولت النظمُ القائمةُ تنفيذَ تلك المصالح بدَأبٍ وإخلاصٍ لضمان بقائها على كراسيها، وانفصلت عن شعوبها ولم تَعُد تأبَه لمطالبها أو تسعى لتحقيق آمالها، ونجحت- في ظل حالة الاستبداد السائدة- في أن تعطِّل إلى حدٍّ كبيرٍ حركةَ الشعوب الداعمة للمقاومة.
- التبعية بكافة صورها الاقتصادية والتقنية والفكرية والثقافية: فبعد أن فقدت مجتمعاتُنا هويتَها أصبحت تابعةً للشرق أو الغرب، ومُسِح ما تبقَّى من معالمها، وشُوِّهت صورتُها، فلم تعُد مجتمعاتٍ مسلمةً في جملةِ نُظُمِها وتقاليدِها، ولا أصبحت غربيةً؛ لأن الغرب لم يعطِها إلا القشورَ وسوءَ الأخلاق، فإذا اجتمعت تلك المصائب كانت النتيجة الطبيعية لذلك عجزًا وضعفًا وانهيارًا وهزيمةً وفشلاً.
كيف العلاج إذن؟! إن علاجَ ما سبق أن ذكرناه إنما يكون بالبُعد عن الأسباب المؤدية إلى ظهور العلل، والسعي لعلاج الأدواء ويكون ذلك بما يلي: - العودة إلى الدين الذي يحمل في طياته الحياةَ للأحياء، وإعادةَ الحياة لمن أصابه الموات ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ﴾ (الأنعام: من الآية 122) كما أن فيه من القدرة والقوة ما يملأ القلوب نقاوةً، والعقول نضارةً والأبدان عافيةً.
إن المسلمين اليوم في حاجة ماسَّة إلى العودة لدينهم؛ لأن واقعَهم لا يُرضي إلا خصمًا حقودًا أو عدوًّا كائدًا، فهو واقعٌ تبرز فيه الأدواءُ في شتى المجالات، وكل مجال منها يمثل ثغرةً تؤتَى الشعوبُ من قِبَلها، وقد بُذلت جهودٌ كثيرةٌ انطلقت من منطلقات شتى لإعادة الحياة إلى مجتمعاتنا وجُرِّبت نظرياتٌ مختلفةٌ ومذاهبُ متناقضةٌ، فما شُفِي مجتمعٌ من مرضه ولا استعاد قُواه؛ لأن تلك النظريات والمذاهب تفتقر إلى الإكسير الناجع، والدواء الشافي، وليس لهذه الأمة علاجٌ إلا في إسلامها، وهي إن التمست العلاجَ في غيره زادَها الله مرضًا على مرض.
- عقد مصالحة بين النظم والشعوب، وأن تستمد النظمُ مشروعيتَها من الشعوبِ لا من الأجنبي، فالنظمُ المستندةُ إلى إرادةٍ شعبيةٍ قويةٍ تستطيع أن تتخذَ قراراتٍ شجاعةً، وأن تصمدَ في وجه التحديات، وتواجهَ الضغوطَ مهما عظُمت، وهنا يظهر التلازمُ القويُّ بين سيادة الشورى وكفالة حقِّ المشاركة الشعبية واحترام الحريات العامة والخاصة وحقوق الإنسان، وبين مواجهة المحتل الغاصب والقُوى التي تدعمه.
وكما نحتاج إلى مصالحةٍ بين كل نظامٍ وشعبه، نحتاج إلى مصالحةٍ بين النظم المختلفة لتتوحد كلمتها وتخرج من حالِ الهوان والضعفِ الذي تعيشه والذي يُهدد كل أقطارها وكياناتها ودولها وحكامها دون استثناء.
إن الحكومات والقوى والجماعات والأحزاب في العالم العربي والإسلامي مدعوةٌ إلى التعاونِ لإخراج الأمة من حال الضعفِ والعجز والتمزق والفرقة والخلاف والانقسام إلى الحوار والمصالحة والتضامن وصولاً إلى تحقيقِ وحدة الأمة على قاعدة الانتماء الحضاري الواحد والمصالح المشتركة والمخاطر التي تستهدف الجميع, وإن اعتبار قضية فلسطين والقدس القضية المركزية للأمة يُشكِّل المدخلَ الصحيحَ للبدء في بناءِ عوامل قدرة العرب والمسلمين وقوتهم ووحدتهم.
- الخروج من نفقِ التبعية بكافةِ صورها؛ وكيف تكون بلادنا تابعةً اقتصاديًّا والأمة تملك من الموارد المادية والطاقات البشرية ما يُتيح لها- إذا ما وحَّدت جهودها- أن تحتل مكانةً متقدمةً على الصعيدِ الاقتصادي؟! لماذا نستورد معظم أقواتنا ونحن نملك الأرضَ الصالحةَ للزراعة؟! ولماذا نستورد معظم حاجياتنا المُصنَّعة ونحن نملك الكفاءاتِ البشرية والخبرات الفنية والمواد الخام والمال الذي يستثمر في هذه المجالات؟! كيف تكون بلادنا تابعة تقنيًّا وعلميًّا ولديها الكفاءات العلمية صاحبة الابتكارات والاختراعات، ولكنها هاجرت من بلادها؛ لأنها افتقدت السياسة الرشيدة التي تُحسِن توظيفها؟! ولماذا نكون تابعين فكريًّا وثقافيًّا وبلادنا مهد الرسالات والحضارات ومنبت الثقافة والأدب، ولغتنا استوعبت القرآن كلامَ الله عز وجل؟! إنَّ التبعيةَ إنما يجب أن تكون من نصيبِ الكيان الصهيوني، فهو كيانٌ طفيليٌّ يعيش مقتاتًا على الدعم الذي يحصل عليه من الغربِ وبخاصة من الولايات المتحدة!! ارتباط بين الداخل والخارج وإذا تحررت نُظمنا من الضغوطِ الخارجية وتخلَّصت من التبعية أمكننا أن نُقدِّم للشعبِ الفلسطيني الدعمَ الذي يُمكِّنه من مواصلة مقاومته وإعادة بناء بنيته الأساسية التي دمَّرها المحتلُ، وإفساح العمق الاقتصادي العربي للاقتصاد الفلسطيني، والضغط على مصالح القوى الداعمة للصهيونية وخاصةً الولايات المتحدة، وتفعيل أسلحة النفط والأرصدة المالية والمصالح الاقتصادية في المعركة السياسية ضد العدوان الصهيوني، وتأسيس صناديق لدعم المقاومة في كلِّ الدولِ العربية والإسلامية وتفعيل لجان المقاطعة وتشكيل مجموعات للتعاون والصداقة مع الشعبِ الفلسطيني؛ بهدف دعم النضال الفلسطيني الشرعي في مواجهةِ الكيان الغاصب.
ومَن يعلم أن الله قادرٌ على كل شيء وأنه القاهرُ فوق عباده، وأنه كما أهلك الأمم السابقة قادرٌ على أن يفني القوةَ الظالمةَ مهما كانت.
مَن يوقن بذلك فلن تجده أبدًا متخاذلاً منهزمًا.
إن حقيقةَ الصراع بيننا مع العدو الصهيوني أنه صراعُ وجودٍ وليس صراعَ حدود، وصراعٌ هذه طبيعته يستدعي حشْدَ كل الطاقات والإمكانات في معركةٍ طويلةِ المدى متعددة الجبهات.
وشعوبنا حيَّة يقظة لن تُفرِّطَ في الأرضِ أو العرضِ أو المقدسات، وهي على استعدادٍ للتضحيةِ من أجلها بالغالي والنفيس.
نسأل الله تعالى أن ينصرنا على أنفسنا وأن يُوحِّد صفَّنا حتى ننتصر بعونه على عدونا، وصدق الله إذ يقول: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ (العنكبوت:69) وهو سبحانه القائل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ (آل عمران: 200).