رمضان.. شهر التغيير والانتصارات
رسالة من محمد مهدي عاكف- المرشد العام للإخوان المسلمين الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على رسولِ اللهِ، وعلى آلِهِ وصحبِهِ ومَنِ اهتدَى بهدَاه، وبعد!! فها قد مرَّت الأيامُ وما أسرَع مرورَها!! ومضَتْ الشهورُ وما أعجلَ مضيَّها!! وأظلَّنا شهرٌ عظيمٌ وموسمٌ كريمٌ.جاء رمضانُ.
فكيف وجَدَ المسلمين بعد غيابِ أحدَ عشرَ شهرًا؟! هل تغيَّر من حالِ المسلمين شيءٌ؟! وهل كان التغيُّرُ للأحسنِ أو غيرِ ذلكَ؟! جاء رمضانُ.
ودماءُ المسلمين ما زالتْ تنزِفُ، وجراحُهم زادَت جرحًا بعد العدوانِ الصهيونيِّ على لبنانَ، وفلسطينُ لا تزال تَئِنُّ، والحصارُ حولَ أهلِهَا يشتَدُّ، والمؤامرةُ عليها تضيْقُ حلقاتُها، بتدبيرِ الصهاينةِ والأمريكانِ، ومؤازرةِ مختلفِ دولِ العالمِ، وتواطؤِ أو تهاونِ أكثرِ العربِ والمسلمين.
جاء شهرُ رمضانَ.
وإخوانُنا يعانون على ثرَى بلادِ الرافدَين وأفغانستانَ من الاحتلالِ الأجنبيِّ، وغيرُهم يعاني في بقاعٍ كثيرةٍ من العالم ظُلمَ القريبِ واستبدادَ إخوةِ الوطنِ.
جاء رمضانُ.
شهرُ التغييرِ والانتصاراتِ، وأقبلتْ مواسمُ الخيرِ على البشريةِ كلِّها، فهل تجدُ مَن يغتنمُها؟! رمضانُ كما أنَّه شهرُ الصيامِ والصلاةِ.
فهو شهرُ الجهادِ والدعوةِ، وكما هو شهرُ البرِّ والصدقاتِ والتضرعاتِ والابتهالاتِ.
فهو شهرُ الانتصاراتِ الكبرى، وكما هو شهرُ التجرُّدِ ونُكرانِ الذاتِ.
فهو شهرُ امتحانِ الصمودِ في وجْهِ المغرِياتِ والمثبِّطاتِ، والتخلصِ من قَيدِ المطامعِ الشخصيةِ، والتحرُّرِ من أَسْرِ الأغراضِ الماديةِ.
كلمةٌ إلى الشعوبِ والحكوماتِ وبهذه المناسبةِ الكريمةِ نتوجَّهُ بكلمةٍ إلى الشعوبِ العربيةِ والإسلاميةِ، وإلى الحكوماتِ العربيةِ والإسلاميةِ: * ها هي المناسبةُ قد واتَتْ لشحذِ الهِمَمِ، وتقويةِ العزائمِ، والتشميرِ عن ساعدِ الجدِّ، وإحداثِ التغييرِ والانطلاقِ نحوَ نهضةٍ حضاريةٍ شاملةٍ؛ لإصلاحِ ما فسَدَ، وتقويمِ ما اعوجَّ.
* مناسبةٌ للرجوعِ إلى اللهِ والصلحِ معه، والتزامِ أوامرِهِ ونواهيْهِ، والعملِ بما يُرضيه، وتطبيقِ شريعتِهِ المنزَّلةِ لصالحِ العبادِ.
* مناسبةٌ لنعرفَ وظيفةَ الإنسانِ في الحياةِ ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾ (الذاريات-56) ودورَ الأمةِ المسلمةِ في العالمِ ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ (آل عمران: من الآية 110).
* مناسبةٌ للنظرِ في أحوالِ السابقينَ وأخبارِ الصالحينَ، والاقتداءِ بهم، والسَّيرِ على طريقتِهم؛ لتتحقَّقَ فِينا صفةُ الخيريةِ التي أرادَها اللهُ لنا.
* مناسبةٌ ليترسَّخ في نفوسِنا معنى أنَّ "اللهَ أكبرُ" من كلِّ قوةٍ في الكونِ، مهما عظُمَت أو هَيْمَنَت أو سيْطَرَت، أو أَرْهَبَت أو رغَّبَت، لتتحرَّرَ نفوسُنا من كلِّ سلطانٍ سوى العبوديةِ للهِ.
* مناسبةٌ لمحاسبةِ النفسِ وأَطْرِها على الحقِّ أطْرًا، لينقَشِعَ الظلمُ، ويزولُ الاستبدادُ، وينتهيَ الفسادُ، ويؤوبَ الناسُ لربِّ العبادِ.
* مناسبةٌ لصُلحِ الحكوماتِ مع الشعوبِ، ورَدِّ المظالمِ التي سُلِبَت من الشعوبِ بغيرِ حقٍّ، والتحالفِ معها بدلاً من التحالفِ مع أعداءِ الأمةِ.
تغييرٌ نحوَ الأفضلِ رمضانُ شهرُ التغييرِ.
التغييرِ نحوَ الأفضلِ، بزيادةِ القُربِ من اللهِ، والاجتهادِ في العملِ، وتعويضِ ما فاتَ من تقصيرٍ في حقِّ اللهِ وفي حقوقِ الناسِ، وكما يحدثُ ذلك على مستوَى كلِّ فردٍ.
يمكنُ أن يحدُثَ على مستوى المجتمَعاتِ، وعلى مستوى المسئولين والحكوماتِ، فلينظر كلُّ مسئولٍ ولتنظُر كلُّ حكومةٍ في صحيفةِ الأعمالِ: ماذا قدمَتْ للناسِ؟! هل رَعَت فيهم حقَّ اللهِ؟ وهلْ أدَّتْ الأمانةَ وقامَتْ بالواجِبِ كما ينبغي أو بَغَتْ وتجبَّرَت وظلَمَت وفَسَدت وأَفسَدَت؟! رمضانُ شهرُ الجهادِ وشهرُ الانتصاراتِ، التي تشملُ الانتصاراتِ العسكريةَ ولا تقتصرُ عليها: * فقد تميَّزَ رمضانُ على مدَى تاريخِ المسلمينَ بأنه شهرُ الانتصاراتِ، وكانت أيامُهُ سِجِلاًّ للوقائعِ الكبيرةِ، فقد شهِدَ غزوةَ بدرٍ الكبرَى في السنةِ الثانيةِ، وانتصرَ المسلمون في يومِ الفرقانِ، الذي كان أولَّ مواجهةٍ مع الكفرِ والشركِ، فانتصرَ الحقُّ وهُزِمَ الباطلُ، وفي رمضانَ كان فتحُ مكةَ.
الفتحُ الأكبرُ الذي تبِعَهُ دخولُ الناسِ في دينِ اللهِ أفواجًا.
* وفي رمضانَ فتَحَ المسلمون "عموريةَ" و"المغربَ الأوسطَ" و"الأندلسَ"، وفيه انتصرَ المسلمون في "عينِ جالوتَ"، ومعركةِ "حارم" واسترجعوا "أنطاكيةَ" من الصليبيين، وغيرُ ذلكَ من المواقعِ التي يذكرُها التاريخُ، ولعلَّ أقربَها في عصرِنا الراهنِ نصرُ العاشرِ من رمضانَ= السادس من أكتوبر، الذي تُوافي ذكراه هذه الأيامُ، والذي تحقَّقَ بعد تأهيلٍ معنويٍّ دينيٍّ للجيشِ المصريِّ إثْرَ هزيمةٍ مخزيةٍ في حربٍ لم يكن للدِّين دورٌ فيها.
وجاءت الانتصاراتُ العسكريةُ نتيجةَ انتصاراتٍ في مجالاتٍ أخرى تحقَّقت عند المسلمين قبل النصرِ العسكريِّ ومهَّدَت له: - جهادٌ دائمٌ مع كل نوازِع الضعفِ والاستكانةِ.
- انتصارٌ للتقوى، فمن يُمسكُ عن الطعامِ والشرابِ والشهوةِ مخافةَ لله (وهو يستطيعُ أن يفعلَ ما يشاءُ في السرِّ) يكونُ قد حقَّق نوعًا من الانتصارِ على النفسِ، وهو انتصارٌ يتحقَّقُ لكلِّ شخصٍ، ويحدُث في كل بَيتٍ.
انتصارٌ على النفسِ وأهوائها، وعلَى شهواتِ الدنيا وملذَّاتِها، وهذا يُؤْذِنُ بتحقُّقِ النصرِ على الأعداءِ، فمَن استطاعَ النصرَ على نفسِه ومنْعَها عما تحبُّ وتهوَى.
طاعةً للهِ تعالى.
فهو مرشَّحٌ لأن ينتصرَ على عدوِّهِ حينَ يحتدمُ الصراعُ في ساحِ القتالِ.
- انتصارٌ على الشياطينِ التي تُسَلْسَلُ في رمضانَ، فلا تخلصُ إلى ما كانت تخلصُ إليه في غيرِ رمضانَ، حتى إنَّ كثيرًا من أصحابِ المعاصي يُقبلون على اللهِ ويُقلعون عما كانوا علَيهِ.
- انتصارٌ على محاولاتِ التخريبِ والإفسادِ وطمسِ معالمِ الدينِ التي يمارسُها الأعداءُ لتغييرِ مجتمعاتِنا، وتبديلِ هويَّتِنا، وهم يبذلون في ذلك جهدًا جهيدًا طوالَ العام، ثم يأتي رمضانُ فيمسحُ آثارَ باطلِهم، كما يمسحُ مَوجُ البحرِ الرسْمَ على الرمالِ، ويأخذُ رمضانُ بأيدي المسلمين للعودةِ إلى ما تركوه خلالَ العامِ، من أخلاقياتِ الإسلام وقِيَمِه وسلوكياتِه.
- وفي رمضانَ ينتصرُ الإيمانُ عند الشبابِ والفتيانِ، فينطلقون إلى المساجدِ، قائمين راكعين ساجدين، أو مجتمِعِين في حِلَقِ الذِّكْرِ ودروسِ العلمِ.
- وفي رمضانَ ينتصرُ المسلمون على محاولاتِ تمزيقِ وحدةِ الأمةِ وتفريقِ صَفِّها، يجتمعون في المساجدِ على ذكْرِ اللهِ، وصلاةِ التراويحِ، والقيامِ، والإفطارِ، والسحورِ، فتتآلفُ قلوبُهم وتجتمعُ أرواحُهم وتحتشدُ قواهم.
- وفيه ينتصرُ الناسُ على شُحِّ النفسِ والأثَرَةِ والأنانيةِ، فتكثُرُ الصدقةُ، ويزدادُ الإنفاقُ في أعمالِ الخيرِ والبِرِّ، ويرتبطُ المسلمُ بأخيه المسلمِ فتتحقَّقُ معاني الأُخوَّةِ والوحدةِ الإسلاميةِ.
- وفي رمضانَ يتحقَّقُ الولاءُ للدينِ وأهلِه، من خلالِ إقبالِ الناسِ على معرفةِ أمورِ الدينِ، وأحكامِه الشرعيةِ، ويرتبطُ الناسُ بالعلماءِ، ليَنهَلُوا منهم العلمَ.
- رمضانُ فرصةٌ للتوبة، فالمولى قد فتحَ الأبوابَ، وأجْزلَ الثوابَ، وكما أن لأهلِ الدنيا مواسمَ فإن لأهلِ الآخرةِ مواسمَ، وإن للآخرةِ تُجَّارًا ﴿رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ﴾ (النور37).
فإِلَى الشعوبِ والحكوماتِ نقولُ: هل نحنُ مخلصون حقًّا في حُبِّنَا لرمضانَ؟! وهل نحنُ راغبون حقًّا في استثمارِ مناسبتِه؟! وهل نريد تحقيقَ التغييرِ المنشودِ والانتصاراتِ المفقودةِ؟! لكي يحدثَ التغييرُ وتَعودَ الانتصاراتُ علينا أن نأخذَ بأسبابِ النصرِ، وننتصرَ على أنفسنا في ميدانِ محاربةِ الشهواتِ والأهواءِ والمطامعِ والرغباتِ، وأن ننتصرَ في معركةِ العملِ والإنتاجِ، وبعدها ننتظرُ النصرَ الذي لا يأتي إلا مِن عندِ اللهِ ﴿وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ﴾ (آل عمران126).
وصلَّ الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلَّم، والحمدُ لله رب العالمين