النظام العالمي الجديد.. إما أن يستقيم أو يزول!!
رسالة من محمد مهدي عاكف- المرشد العام للإخوان المسلمين الحمد لله، والصلاة والسلام، على رسول الله وآله وصحبه أجمعين وبعد!! يحمل التاريخ في طياتِ صفحاتِه الكثيرَ من سِيَر استغلال الإنسان لأخيه الإنسان، وقد تغيَّرت أشكالُ التعبير عن هذا الاستغلال من الاحتلال المباشر.عسكريًّا واقتصاديًّا وسياسيًّا.
إلى استعمارٍ غيرِ مباشر، وتوزيعٍ لمناطق النفوذ، وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي في بداية تسعينيات القرن الماضي- تاركًا الساحة للمعسكر الغربي الذي تقودُه الولايات المتحدة- كثَّفت هذه الأخيرة من عمليات التوسع في مناطق النفوذ؛ تعبيرًا عن اتجاه للهيمنة على مقدَّرات العالم من طرف قطبٍ واحدٍ، وبدأت الدعوة لما يسمَّى بـ(النظام العالمي الجديد).
وهو في واقع أمره ليس جديدًا، لا في توجهاته ولا أهدافه، وإنما هو استمرارٌ لذات المحاولات في السيطرة والهيمنة على العالم، وإذا كان من جديد فهو فيما يتعلق بالوسائل التي تستخدمها الولايات المتحدة والجهات المسيطرة لتحقيق مآربها، مستغلةً قدرةَ الرَّدع المتفوقة في مجالَي أسلحة التدمير الشامل والأسلحة التقليدية وقوة الاقتصاد والتطور التقني الكبير الذي تحقَّق خاصةً في مجالَي الاتصال ونقل المعلومات.
يتحدث البعضُ عن النظام العالمي الجديد وكأنه صياغةٌ مبتكَرة تحمل الحلول السحرية لمشكلات الإنسانية، وهو في الواقع استمرارٌ للنظام الاستعماري القديم، وهو يدورُ في إطار ذات المرجعية المادية التي لا تَعترف بأيِّ قيمة إنسانية أخلاقية، ولا ترى الإنسان إلا باعتباره ظاهرةً ماديةً، شأنُه شأنَ الطبيعة أو الكون من حوله.
* ولأن الغرب يرى في نفسه (الأنا) المقدَّسة نراه قد شطَر العالم شطرَين: - غرب ينبغي أن يكون قويًّا غنيًّا، مسلَّحًا وغازيًا منتجًا.
- وبقية العالم أو الآخر الذي يستحق أن يكون ضعيفًا فقيرًا أعزلَ من السلاح مغزوًّا ومحتلاًّ ومستهلَكًا، ويحاول الغرب أن يفرض رؤيته- بالقوة- مثلما يفرض استمرار حالة التفاوت بين الشعوب، وقد تتغير أشكال الاستغلال ولكن يبقى النظام واحدًا، نظامًا يقوم على فلسفات عنصرية، ويتلبَّس أفكار "داروين" و"نتشه"، ويجعل الغرب هو المركز، وأنه يجب أن يكون قويًّا على الدوام؛ لأن البقاء للأقوى، والآخر يجب أن يكون ضعيفًا على الدوام؛ لأن قوته تعني ضعف الغرب ومن ثم زوال سطوته، وأن الجنس الأبيض وحده صاحب الحق في الحياة والعيش الرغيد، والإنسان الأبيض هو صاحب المشروع الحضاري الوحيد الجدير بالبقاء!! ومن رحم هذه النظريات ظهرت الفاشية والنازية والصهيونية والإمبريالية الجديدة، والتي تحوَّلت إلى سياسات ومواجهات أذاقت العالم ويلات الحرب أكثر من نصف قرن، ولا تزال السبب الرئيس للمشكلات والاضطرابات والأزمات التي يشهدها العالم.
* النظام العالمي الجديد نظام استعماري قديم يستخدم أدوات جديدة.
الإغواء مع القمع, والاختراق والسيطرة مع مزاعم الشراكة، والتفكيك مع التدمير, تفكيك الدول كإطار لتجميع الشعوب ضد الهيمنة، وإثارة الأقليات ومشكلات الحدود والنعرات العِرقية والفتن الطائفية والحروب الأهلية، وعزل المجتمعات العربية عن المجتمعات الإسلامية، بتشجيع الاتجاهات القومية، وتجهيل المجتمعات، واستهداف عقول الشباب، وتدمير نظام القيم، وتعميم مشاعر الإحباط.
* نظام يريد تحويل العالم إلى "سوبر ماركت" كبير، همُّه الأول الاستهلاك، وإشباع الرغبات والملذَّات، وتحقيق الاحتياجات المادية المتصاعدة إلى غير نهاية؛ وهو حين يقدم مساعدةً اقتصاديةً أو يساعد على نمو اقتصادي، فإنما هدفه أن يذوق المحرومون طعمَ المتعة ليتقلَّبوا في جحيم الحرمان بعد ذلك، فالجوعَى لا يمكن تجويعهم، والمحرومون لا تستطيع تهديدهم بالحرمان أو الضغط عليهم، فهم- على فقرهم وحرمانهم- مستقلون قادرون على الحفاظ على قيمهم ومبادئهم وتراثهم؛ ولذلك ينبغي أن يترفَّه العالم وتتقدم المجتمعات حتى يحدث الاختراق ويسيطر النظام العالمي، ولا يعني ذلك أننا نرفض إطعام الجوعى أو إغاثة المحروم، بل إن الإسلام يَعتبر منع إطعام المسكين وإغاثة المحتاج سببًا في دخول جهنم.
﴿مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46)﴾ (المدثر) ﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3)﴾ (الماعون).
* نظام هيمن فيه عقلُ القوة على قوة العقل، وأصبح التهديد الفجُّ المُصاحِب للظلم البيِّن هو أسلوبَ معالجة قضايا الأمم والشعوب.
* نظام يعتمد على نشر الرعب والرهبة في كل مكان، بواسطة التخويف المتواصل والإعلان الصريح بالقوة الجبَّارة التي تترصَّد كل معارض وكل خروج عن سلطة النظام.
* نظام ينشر مناطق الحروب التي تزيد وتقلّ؛ خدمةً لمصالح رأس المال، ويتحكَّم في إيقاع الحرب ونمط ظهورها وانتهائها وتحولاتها وتبريراتها، لقد تحوَّل العالم من وضع التهديد بالرَّدع الذي يمنع الحرب إلى التهديد بالفعل ذاته؛ بهدف إقامة حروب في بقاع متعددة من العالم، والتدخل المباشر فيها، وتنظيم حرب رادعة لتصبح مثالاً يخيف العالم، والتوسع في استعمال الحرب الاقتصادية متمثَّلةً في الحصار البري والبحري والجوي.
* نظام يمارس أسوأ أشكال الإرهاب؛ وإذا كان الإرهاب بمعنى الاعتداء على الآخرين بغير وجه حقٍّ منبوذًا يجب التنديد به.
فإن الإرهاب الأسوأ هو الذي يقوم به النظام العالمي الجديد، خاصةً أنه يتقمَّص شكلاً قانونيًّا بما يسنُّ من قوانين وقراراتٍ دوليةٍ يطبِّقها بالقوة.
لقد كتب الإمام الشهيد حسن البنا قبل أكثر من 60 عامًا يصف حال النظام الجديد الذي نادَى به ساسةُ الغرب إبان الحرب العالمية الثانية، فقال: "لقد ردَّد الساسةُ جميعًا كلمة "النظام الجديد".
فهتلر (زعيم ألمانيا النازية) يريد أن يتقدَّم للناس بنظام جديد، وتشرشل (رئيس الوزراء البريطاني) يقول إن إنجلترا المنتصرة ستحمل الناس على نظام جديد، وروزفلت (الرئيس الأمريكي) يتنبَّأ ويُشيد بهذا النظام الجديد، والجميع يشيرون إلى أن هذا النظام الجديد سينظم أوروبا ويُعيد إليها الأمن والطمأنينة والسلام، فأين حظُّ الشرق والمسلمين من هذا النظام المنشود؟! نريد هنا أن نلفت أنظار الساسة الغربيين إلى أن الفكرة الاستعمارية إن كانت قد أفلست في الماضي مرةً فهي في المستقبل أشدُّ فشلاً لا محالةَ، وقد تنبَّهت المشاعر وتيقَّظت حواس الشعوب، وأن سياسة القهر والضغط والجبروت لم تأتِ في الماضي إلا بعكس المقصود منه، وقد عجزت عن قيادة القلوب والشعوب، وهي في المستقبل أشدُّ عجزًا، وأن سياسة الخداع والدهاء والمرونة السياسية إنْ هدَأ بها الجوُّ حينًا فلا تلبث أن تهبَّ العاصفةُ قويةً عنيفةً، وقد تكشَّفت هذه السياسة عن كثير من الأخطاء والمشكلات والمنازعات، وهى في المستقبل أضعف من أن توصِّل إلى المقصود".
ويستطرد الإمام الشهيد- يرحمه الله- قائلاً: "وإذًا فلا بد من سياسة جديدة، فهي سياسة التعاون والتحالف الصادق البريء، المبني على التآخي والتقدير، وتبادل المنافع والمصالح المادية والأدبية بين أفراد الأسرة الإنسانية في الشرق والغرب، لا بين دول أوروبا فقط، وبهذه السياسة وحدَها يستقرُّ النظام الجديد وينتشر في ظله الأمن والسلام.
إن حكم الجبروت والقهر قد فات، ولن تستطيع أوروبا بعد اليوم أن تحكم الشرق بالحديد والنار، وإن هذه النظريات السياسية البالية لن تتفق مع تطور الحوادث ورقيّ الشعوب ونهضة الأمم الإسلامية، ولا مع المبادئ والمشاعر التي ستطلع بها هذه الحرب الضروس على الناس".
وما أشبه الليلة بالبارحة ونحن نقول لواشنطن: إنكِ قد عجزت عن قيادة القلوب والشعوب، وإن حكمَ الجبروت والقهر قد فات، ولن تستطيعي أن تحكمي أحدًا من الشعوب بالحديد والنار؛ لأن الشعوب قد تنبَّهت وهي ترفض محاولاتِ السيطرة والهيمنة، وإن الحرب المزعومة على ما يسمَّى بالإرهاب لا تتفق مع تطور الحوادث ورقيّ الشعوب ونهضة الأمم.
ورغم ما تحقق لأمريكا من كسب إلا أن كثيرًا من أجزاء الصورة لم يكتمل على الطريقة التي أرادتها؛ لأن العالم بطبيعته وعبر تاريخه الطويل لم يكنْ حكرًا على أحد، ولن يكون حكرًا على الولايات المتحدة وربيبتها العصابات الصهيونية، وسيتواصل رفْضُ الشعوب لمحاولات فرضِ النظام العالمي صاحب العدالة العرجاء وقوة البطش العمياء؛ حتى يأذنَ الله بنظامٍ يستقيم مع موازين العدل المجرَّد عن الهوى والمصلحة ﴿وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8)﴾ (المائدة)، والحرية المنضبطة لا الحرية المنفلتة التي تقود إلى الخراب والفساد والدمار.
والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون