أمانة الكلمة والإعلام
رسالة من محمد مهدي عاكف- المرشد العام للإخوان المسلمين بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن والاه، وبعد.فإن الكلمة سلاح خطير، وهي سلاحٌ ذو حدَّين، إما أن يؤدي إلى البناء والإعمار، وإما أن يؤدي إلى الهدم والخراب؛ ذلك لأن الكلمة هي التي تشكِّل التصوُّر، وتوجِّه الفكر، وتحرِّك الوجدان، ومن ثمَّ تحدِّد الموقفَ وتدفع إلى السلوك، فإن كانت الكلمة صادقةً أمينةً صالحةً أدَّت إلى الخير والبناء، وإن كانت كاذبةً باطلةً فاسدةً قادت إلى الشرِّ والدمار.
ولقد كانت رسالات الله إلى البشر كلامًا، ولكنه كلامٌ جمعَ الحقَّ والخيرَ والصدقَ للناس، فمنهم من آمَنَ به وطبَّقَه في حياته فسَعِدَ باطنًا وظاهرًا، ومنهم من كفَر به وصدَّ عنه، وكم عانَى الأنبياء والمرسلون من كلام هذا الصنف الأخير من الناس، إذ أشاعوا حولهم الأباطيل والفِرَى، ووصفوهم بالكذب والجنون والسحر والكهانة، وكان هذا نموذجًا للإعلام المضلِّل في ذلك الوقت المبكِّر من التاريخ.
ومما يدلُّ على مدى خطورة الكلمة أن حروبًا كانت تقوم بكلمة هنا وكلمة هناك، ولقد كان اليهود أساتذة هذا الفن في المدينة قبل هجرة النبي- صلى الله عليه وسلم- إليها، فقد كانوا يذكِّرون الأوسَ تارةً والخزرجَ تارةً بما قيل من شِعرٍ في معاركهم السابقة؛ لتحريض القبيلة المغلوبة على القيام للثأر من القبيلة الأخرى، فتشتعل الحرب الطاحنة فيما بينهما ولا يستفيد إلا اليهود، وهكذا دواليك.
والكلمة هي وسيلة الإعلام ومادته، ولذلك فإن الإعلام يستمدُّ وصفَه من طبيعة وحقيقة الكلام الذي يستخدمه، فإن كان الكلام صادقًا كان الإعلام صادقًا، والعكس صحيح.
ونظرًا لخطورة الكلمة والإعلام وأثرهما في الحياة والناس فقد ضبطهما الإسلام بضوابط الشرع والأخلاق والحلال والحرام، فإن كانا في مجال الإنشاء- أي الأمر والنهي- فقد أوجب أن يكونا دعوةً إلى الخير بالحكمة والموعظة الحسنة وتعاونًا على البر والتقوى، وأمرًا بالمعروف ونهيًا عن المنكر.
﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ﴾ (النحل: من الآية 125) ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ (آل عمران: 104) ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ (المائدة: من الآية 2).
وإن كانا- أي الكلمة والإعلام- في مجال الإخبار فيجب أن يكونا حقًّا وصدقًا، ولا يكونا كذبًا أو باطلاً أو ظنًّا ﴿اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾ (التوبة: من الآية 119) ﴿فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ﴾ (آل عمران: من الآية 61) ﴿إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ﴾ (النحل: 105) " إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث ".
وحتى يعمِّق الإسلام الشعور بخطورة الكلمة فقد كرَّر في مواضع كثيرة من القرآن والسنة المسئولية التي يقع الإنسان تحت طائلتها نتيجةَ ما يقول، ومن أمثلة ذلك قوله تعالى: ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ (ق: 18)، ومن الأحاديث الشريفة " المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده" "إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى، ما يلقي لها بالاً، يرفعه الله بها درجات، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى، لا يلقي لها بالاً، يهوي بها في جهنم" "وهل يَكبُّ الناسَ في النار على وجوههم إلا حصائدُ ألسنتهم" "ألا أخبركم بأكبر الكبائر؟ الشرك بالله وعقوق الوالدين، ألا وقول الزور، ألا وقول الزور، ألا وقول الزور !!".
ورغم هذه المبادئ السامية والقواعد الواضحة إلا أن أنظمة الحكم المستبدَّة حرصت على السيطرة على أجهزة الإعلام، التي تعاظمت قدرتُها، وتنوعت وسائلُها في هذا العصر، في محاولة لاغتيال خصومها السياسيين معنويًّا، وغسل أدمغة الشعب؛ حتى يتقبَّل البطش المادي بهم لإقصائهم عن ساحة العمل العام؛ ليخلوَ الجوُّ لتحالف الاستبداد والفساد، والقهر والنهب؛ ولذلك فنحن نتعرَّض لأبشع حملات الكذب والافتراء والتضليل من قِبَل أجهزة الإعلام الحكومية، ومن يشايعها من أعداء مشروع النهضة الإسلامي من العلمانيين واليساريين.
هذا في الوقت الذي تقوم فيه أجهزة الأمن بالبطش والاعتقال والتحفُّظ على الأموال، وإغلاق الشركات والمؤسسات الاقتصادية، وتشريد العاملين في حماية قانون الطوارئ الذي يُتيح لضباط عسكريين أن يحاكموا الشرفاء المدنيين، وبالتالي تصبح الحكومة هي الخصم والحكم في نفس الوقت؛ نظرًا لأن السلطة التنفيذية هي التي تُحيل المدنيين إلى هذه المحاكم المدَّعاة، وهؤلاء العسكريون- القضاة المدعون- يتبعون السلطة التنفيذية، أي أن الحكومة هي التي تغتال معنويًّا بإعلامها، وتظلم ماديًّا بأجهزتها، دون أن ترقُب في مؤمن إلاًّ ولا ذمةً، ودون أن تراعي قواعد الصدق والأمانة في الإعلام أو قواعد الحق والعدالة في القضاء.
ولكن فضل الله تعالى ثم وعي الشعب الفطري يدفع الناس لمعرفة الحقيقة والتقييم الصحيح للناس، فيعرفون المخلص من المغرض، والصادق من الكاذب والمظلوم من الظالم، فيتعاطفون مع المخلصين الصادقين ولو كانوا يسامون سوء العذاب، وهكذا ينقلب السحر على الساحر ﴿فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ﴾ (الرعد: من الآية 17).
ولقد أدرك الصهاينة التأثير الخطير للإعلام من وقت مبكِّر، فسعوا إلى السيطرة عليه، ولا سيما في الغرب، وراحوا يضخِّمون ما ألحقه بهم النازي من ظلم واضطهاد؛ حتى يبرِّروا ما يلحقونه بالعرب والمسلمين في فلسطين، من تهجيرٍ وإبادةٍ واستيلاءٍ على الأوطان، مستندين إلى الأساطير التوراتية.
وكذلك فعل الصليبيون الصهاينة (المحافظون الجدد) في أمريكا، مستغلين أحداث 11 سبتمبر، التي لم يتم فيها تحقيق نزيه محايد حتى الآن لإعلان حرب على الإسلام تحت دعوى محاربة الإرهاب دون تحديد لمعنى الإرهاب، وتم استخدام الإعلام الكاذب في التمهيد لشنِّ حروب خطيرة احتُلت على أثرها أفغانستان، ثم العراق، ثم ضربت لبنان، وضربت الصومال، ولا تزال سوريا والسودان تعيشان تحت تهديد بالحرب والعدوان، ولا تزال طبول الحرب الإعلامية تدقُّ وتمهِّد للعدوان على إيران، ولقد أسفرت هذه الحروب عن قتل أكثر من مليون شخص وجرح وتهجير أضعاف هذا الرقم وتدمير الدول التي تم احتلالها وتمزيق شعوبها، ونشوب حرب طائفية في العراق.
ولقد قام الإعلام الغربي باختلاق أسباب كاذبة لغزو هذه الدول، مثل امتلاك أسلحة دمار شامل في العراق، والتعاون مع تنظيم القاعدة، وإقامة دولة ديمقراطية نموذجية، إلى آخر هذه الدعاوَى التي تبيَّن كذبُها واعترف بذلك مَن روَّجوها، وهكذا تتضح خطورة الإعلام.
ونحن مطالَبون إزاء هذا الإعلام الفاسد أن نتوخَّى الحذر، وأن نلتزم بمبادئ وآداب الإسلام ﴿إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾ (الحجرات: من الآية 6)، وأن نسعى لنشر الحقيقة بكل الوسائل التي نملكها، ولو كانت بالاتصال المباشر في الداخل والخارج، وألا نتأثر بالحملات الكاذبة والظالمة ولو بلغت عنان السماء، وألا نظن بأنفسنا وإخواننا الإسلاميين إلا خيرًا ﴿لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ﴾ (النور: 12) وكذلك لا يصح أن نتناقل هذه الأكاذيب إلا للردِّ عليها ودحضها ﴿إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ﴾ (النور: 15).
وفي النهاية فإني أتوجه إلى أصحاب السلطان وأصحاب اللسان وأصحاب القلم والبيان أن يتقوا الله في دينهم وفي أوطانهم وفي شعوبهم وفي إخوانهم، في حريتهم وأموالهم وأولادهم وأعراضهم، وأن يكفوا عنهم الأذى المادي.
المتمثِّل في الاعتقال وترويع الأُسَر ومصادرة الأموال، والأذى المعنوي.
المتمثل في إلصاق التُّهَم الباطلة بهم، فالجميع في سفينة واحدة، وهي مستهدفة من الغرب.
﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾ (الصف: 8).
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.