في ذكرى المولد النبوي
رسالة من محمد مهدي عاكف- المرشد العام للإخوان المسلمين الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.فقد عاشت الإنسانية قبل مولده- صلى الله عليه وسلم- وقبل طلوع فجر الإسلام العظيم مرحلةً من أحطِّ مراحل التاريخ البشري، في جميع شئونها.
الدينية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، كانت تعاني من الحروب والفوضى والتفرُّق والتعصُّب، حتى صار الجهل والهوى والغرور والتعسُّف والظلم من أبرز ملامح الحياة، وفي دنيا الناس وفي واقعهم لا مكان لأيِّ خير.
وقد تفضَّل الله- عز وجلَّ- على البشرية كلها بالقائد العظيم والمنهج القويم، فكان الرسول الخاتم- صلى الله عليه وسلم- هو الهادي والمنقذ، وهو المدرسة العملية، الذي حمل الرسالة، وعلَّم الأمة، وحملَها على النظام، ونزَع من رءوسِها الغرورَ والاستكبارَ، وطهَّر قلوبَها بعقيدة التوحيد الخالص، فكانت خيرَ أمة أخرجت للناس.
إن من سُنن الله سبحانه أن المعاني المجرَّدة لا تستقرُّ في النفوس، فهي في حاجة إلى قدوة، إلى مثال مجسَّد محسوس، واقعي مشاهَد، يطبِّق ما يقول، ويجسِّد في حياته كلَّ ما ينادي به؛ ولذلك تجسَّدت مبادئ الإسلام وأخلاقه وشريعته ومثُلُه العُليا في رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في جميع أحواله، وظلَّ طوال حياته وبعد مماته إلى يوم الدين الطرازَ الرفيعَ والقدوةَ والأسوةَ الحسنةَ ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً﴾ (الأحزاب: 21) ﴿اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾ (الأنعام: من الآية 12).
فهو الرحمة المهداة، والنعمة المسْدَاةُ، وهو السراجُ المنيرُ.
"إنما أنا رحمة مهداة " وهو الثابتُ عند الشدائد، الشجاع عند النوازل، يقول الصحابة: " كنا إذا اشتد البأس اتقينا برسول الله فما يكون أحد أقرب إلى العدوِّ منه " وهو- صلى الله عليه وسلم- الذي يرفق باليتيم والضعيف، ويرحم الأرملة والمسكين، ويقول: " أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة " ويقول: " أنا وامرأة سفعاء الخدَّين تسعى على أيتام لها كهاتين في الجنة ".
إن في سيرته وفي حياته- صلى الله عليه وسلم- وفي صبره وتحمُّله الأذى من قريش ومن العرب، ثم في شجاعته وقوته في مواجهة الباطل والمبطلين لدروسًا وعِبَرًا، تحفظُنا من الحيرة والإحباط الذي قد يشعر به البعضُ من غريب ما ينزل بالمسلمين وما يحيط بهم من نكباتٍ، وما يحاكُ لهم من فِتَنٍ، بل من شأن القرب من حياة الرسول العظيم أن يوقظَ الهِمَم ويقوِّيَ عزائمَ الشعوب المغلوبة على أمرها، فلا تستكين للظلم، وتأبى الضيم، وترفض اليأس أو القنوط.
إن وقفته- صلى الله عليه وسلم- أمام قريش وأمام عمِّه حين ظنَّ أنه سيخذلُه وقوله له: " والله يا عم لو وضَعُوا الشمسَ في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يُظهره الله أو أهلك دونه ما تركته " لهي وقفةٌ يجب أن نتأملَها وأن نتأسَّى بها.
كما أن قولَه- صلى الله عليه وسلم- لخباب بن الأرتّ- رضي الله عنه- وقد جاءت به قريش ووضعوا ظهره على الحجارة المحماة وقت الظهيرة حتى اكتوى ظهرُه، فجاء إلى النبي يشكو ما أصابه، فماذا قال سيد الدعاة صلى الله عليه وسلم؟! قال: "قد كان مَنْ قبلكم يُؤْخذُ الرجل فيحفر له في الأرض، فيجعل فيها، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيُجعل نصفَين، ويُمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، فما يصدُّه ذلك عن دينه، والله ليتمّنّ هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله، والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون " توجيهٌ للثبات والاحتمال، وتبشيرٌ بالمستقبل الكريم لهذا الدين.
واليوم ونحن نحتفل بذكرى مولده- صلى الله عليه وسلم- ونستعيد هذه الأمجاد والبطولات والأخلاق لا بدَّ لنا من وقفةٍ مع النفس ومع المسلمين الذين بعدوا كثيرًا عن هذه الأصول، وصارت الهوَّةُ بين القول والعمل والتطبيق والتنفيذ لا حدَّ لها، وأصبح الحديث مثلاً عن أداء الأمانة وأن نتحمَّلَها بحقٍّ ونراقب الله فيها ونؤديها إلى مَن أمرنا الله بأدائها إليه من الأمور النادرة، وكثير من فرائض الإسلام تأخذ هذا الطريق، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وفي عصرنا أحاطت بالمسلمين محنٌ قاسيةٌ.
عدوان واضطهاد.
قتل وتشريد.
واقع مؤلم شديد.
سجون وأسرى.
ثروات المسلمين تنهب.
تبعيتهم هنا وهناك تزداد!! وبدل أن يستيقظ المسلمون على ردِّ هذه النوازل فإن المستوى الخلُقي عند البعض يهبط، والمستوى الإيماني يتضاءل، والأثَرة والنزعة الفردية والانتهازية أمراضٌ تسري في جسد الأمة، والاستبداد مستمرٌّ، والمصالح الدنيوية فوق كل شيء!! كل هذه الدواهي والمشروع الصهيوني الأمريكي يتقدَّم ويسعى لمحاصرة المسلمين، وفي كل قطْر إسلامي فتنٌ وأزماتٌ، وفي فلسطين والعراق وأفغانستان والسودان والصومال يعيشون واقعًا مأساويًّا بكل المقاييس، وأمام أبصارنا صور أطفال المسلمين من الأيتام، يبحثون عن آبائهم بلا جدوى؛ لأنهم ذهبوا ولن يعودوا!! بماذا نسمي هذه الأعمال الإجرامية؟! نسميها وحشية، هل هي حقد أسود؟! هل هي همجية من طراز غريب؟! ومهما عبرت كل هذه الكلمات عن الواقع فإن الحقيقة سوف تظل أغربَ من الخيال.
وفي مولد البطولات.
مولد الرجولة والحرية والجهاد ودفع الظلم.
من حق المسلمين أن يتساءلوا: هل أخرج الله هذه الأمة لتصير إلى هذا الهوان؟! حتى يقتحمَها اللصوص وسفَّاكو الدماء من كل جانب ولا تتحرك، بل ولا تدافع عن الدماء والأعراض والأموال؟! أما آن لهذه اللَّطمات أن تنتهي ولهذه المذابح أن تتوقف؟! أهذه أمة الإسلام؟! أهذه الأمة التي تلقَّت وعدها بالنصر والتمكين؟ ما أبعد الصورة اليوم عن الأصل؟! وما أبعد الواقع عن الحقيقة؟! ونذكر في هذه المناسبة شهداء الإسلام الأبطال الذين فازوا وآثروا الباقية على الفانية، ورأَوا الشهادة نقلةً من هذه الدنيا إلى كرامة الله ورضوانه.
إنهم الرجال الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، ووقفوا للباطل لا يخافون إلا من الله وحده، وتقدَّموا خطواتٍ خلصوا بها من ضِيقِ الأرض إلى سعةِ الجنة، ومِن تطاوُل الباطل والضالِّين والسفَّاحين.
إلى طمأنينة الحق، وجوار العلي العظيم، هناك حيث الروح والريحان، رحم الله الإمام المجاهد العظيم الشيخ أحمد ياسين وإخوانَه وأبناءَه الذين ربَّاهم على الفداء والتضحية ثم أقبل بهم على الله في موكب الشهداء، يشربون من أنهار الجنة، ويأكلون من ثمارها، ثم يَأوون إلى قناديل معلَّقة تحت العرش فيبيتون فيها، رضي الله عنهم وأرضاهم.
حقيقة يجب أن نذكرَها ونحن اليوم نستحثُّ الحكَّامَ ونستحثُّ إيمانَ المسلمين ورجولتَهم وغيرتَهم الإسلامية ونخاطبُهم بكلمة الحق، والحق في هذه المواقف مرٌّ، فمتى يشعر المسلمون بأحوال الأمة؟! ومَنْ للأرامل والأيتام والمعوّقين والمرضى، والأطفال والجرحى؟! ومتى يحسُّ المسلمون بالواجب عليهم تجاه إخوانهم؟ أين أخوَّة الإسلام؟ وأين الرحمة؟ بل أين الإسلام في حياة المسلمين؟ وأين الجسد الواحد؟! وإخواننا الأبرار الرجال خلفَ الأسوار والقضبان ظلمًا وبغيًا وعدوانًا لأنهم قالوا ربنا الله نقول: اصبروا وصابروا ورابطوا، ونقول لهم ما قاله الحق سبحانه: ﴿فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ﴾ ( الروم:60) فالفرج قريب، والأمر بيد الله وحده.
أيها الأحباب.
الابتلاء سنة الدعوات، وطبيعة هذا الطريق الجهاد، وقد وعد الله المجاهدين بالهداية والتوفيق، فقال: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ (العنكبوت: 69) أيها الأحباب.
المستقبل لهذا الدين لأنه حقٌّ، ولهذه الأمة لأن الله وعدها بالنصر ﴿أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾ (البقرة: من الآية 214).
وأما الأمهات والآباء والأبناء، فهم في كنَف الله ورعايتِه وفي رحمتِه وفضلِه، ونقول لهم: هذا تشريفٌ لكم أن تقدموا للدعوة وللإسلام مَن يدافع عنه، ويتحمَّل في سبيله.
هذا تاجٌ للأمهات وللأبناء من الصابرين المحتسبين.
وأذكِّر نفسي وكلَّ مسلم بيومٍ آتٍ لا ريبَ فيه، يوم تُبلَى فيه السرائرُ وتَعنُو فيه الوجوهُ لمليكٍ مقتدرٍ، قهر الناس بجبروته وهم له خاضعون، يرجون رحمته ويخافون عذابه، فأداء حقِّ هذا الدين، واتباع الرسول الأمين، ونصرة المعذبين والمغلوبين، وكسر شوكة المبطلين.
فرائض وواجبات، ولا بد لجميع المسلمين- حكَّامًا ومحكومين- أن يتَّعظوا ويَعتبروا بمَن مات منهم، ولا بد لهم أن يفكِّروا فيمن كانوا بالأمس، أين هم اليوم؟! يا مسلمون.
نحن الآن في مهل قبل فوات الأجل وانقطاع الأمل، اذكروا الوقوف بين يدي الواحد القهار في مجمعٍ من الملائكة، وقد عنَتْ الوجوهُ للحي القيوم، وقد خاب من حمل ظلمًا.
وفي هذه المناسبة العظيمة نطرُق باب الكريم جلَّ جلالُه، ونضرَع إليه أن ينصر دينه، وأن يعزَّ أولياءه وأحبابه، وأن يفتح للمسلمين فتحًا مبينًا، وأن ينصرهم على أنفسهم وعلى أعدائهم، وأن يثبت أقدامهم فهو وليُّهم والقادر على كل شيء.
ألا هل بلغت؟ اللهم فاشهد.
وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم.