القضية الفلسطينية على مفترق الطرق
رسالة من محمد مهدي عاكف- المرشد العام للإخوان المسلمين الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله ومن والاه، وبعد.أعادت المجازرُ البشعةُ التي اقترفها العدوُّ الصهيونيُّ في غزة خلال الأسابيع الأخيرة، والتي تصاعدت إلى حدٍّ غير مسبوقٍ يوم الثلاثاء 15/1/2008م، واستُشهد فيها 22 شهيدًا بجانب عشرات الجرحى؛ أقول أعادت إلى الأذهان المرحلةَ الحرجةَ التي تمرُّ بها القضية الفلسطينية.
لقد تواكبت هذه المجازرُ الإرهابيةُ مع عدة معطياتٍ جديدةٍ غير مسبوقةٍ في تاريخ قضية العرب والمسلمين الأولى (فلسطين): أولاً: تصاعدت حدِّة الهجمات مع زيارة الراعي الرسمي لعملية التسوية المنهارة، الرئيس الأمريكي، الذي أعلن في كل محطات زيارته التأكيد على عدة نقاط: * منها التحالف الإستراتيجي بين أمريكا والعدو الصهيوني.
* ومنها التأكيد المستمر على حماية أمن الكيان الصهيوني، وأن أحدَ أهدافِ زيارته وجولته هو ضمان أمن تلك الدولة العنصرية.
* ومنها الإعلان من جديد على هويَّة الدولة العبرية العنصرية على أنها يهودية؛ بما يعني ذلك من إلغاءِ حقِّ العودة لملايين اللاجئين الفلسطينيين، وإهدارِ كافة القرارات الدولية التي تضمن لهم ذلك الحق، بل التهديد بطرد وتهجير السكان العرب، الذين تمسَّكوا بالبقاء على الأرض الفلسطينية التي احتلَّها العدو عام 1948م.
* ومنها التصريح بأن المستوطنات الكبرى باقيةٌ ولن تُمسّ، وأن حدود عام 1967م سيجري عليها تغييراتٌ؛ بما يعني أن سُور الفصل العنصري الذي أدانته محكمة العدل الدولية سيمثِّل حدود الدولة الفلسطينية المقترحة، والتي يخدَّر بها الفلسطينيون، وأن إزالة بعض البؤر الاستيطانية العشوائية الفارغة هو غاية ما يمكن أن يقوم به الكيان الصهيوني.
* ومنها أن القدس مسألةٌ عسيرةٌ وصعبةٌ، ولا يمكن حلُّها سريعًا؛ بما يعني عدم عودة القدس إلى الحظيرة العربية.
ولقد صمت الزعماء العرب جميعًا في مؤتمراتهم الصحفية مع الرئيس الأمريكي عن إدانة تلك التصريحات، التي فرَّغت المفاوضات وعملية التسوية من جوهرها أو غايتها، وما يعنيه ذلك الصمت من رضا أو عجز، وهو ما عكَسَه حضورُهم جميعًا مؤتمرَ "أنابوليس"، الذي بدأت فيه ملامح خطة تصفية القضية الفلسطينية، وجاءت زيارة بوش لتكرِّس هذه الخطة الشيطانية قبل مغادرته للبيت الأبيض.
ثانيًا: استمرَّت الهجمات مع استمرار جلسات المفاوضات بين الرئيس محمود عباس وفريقه المفاوض مع هؤلاء الإرهابيين، الذين تلطَّخت أياديهم بدماء شعب فلسطين في غزة والضفة الغربية، وهو نوعٌ من الاستسلام المهين، والسير في ركاب خطة العدو الصهيوني، ومحاولة تصفية القضية الفلسطينية بأيدي بعض أبناء فلسطين ممن تبوَّءوا مقاعدَ السلطة في غيبة المؤسسات التي تعبِّر عن الشعب الفلسطيني، ممثَّلةً في منظمة التحرير الفلسطينية، بل إن هذا الفريق يسعى حثيثًا لإلغاء المؤسسات الشرعية لحساب تعيين آخرين ممن يرضى عنهم العدو الصهيوني.
ثالثًا: استمر حصار غزة أكثر من 225 يومًا؛ لتجويع أكثر من مليون ونصف المليون فلسطيني، بل وقتلهم قتلاً بطيئًا بمنع الغذاء والدواء، ومع الصمود الأسطوري لأهل غزة، إلا أن مشاركة الحكومات العربية في ذلك الحصار هي الخيانة العظمى لجهاد الشعب الفلسطيني، بل والمسارعة في إحكام الحصار بالأموال الأمريكية والتقنية الحديثة لتدمير الأنفاق التي تمثِّل أنبوبَ الحياة الوحيد الآن لتهريب بعض الأغذية والأدوية، وكأنَّ العربَ يشاركون في قتل شعبٍ عربيٍّ قرَّر الصمودَ والجهادَ في مواجهة آلة الحرب الأمريكية والصهيونية.
هذا في الوقت الذي كان يجب فيه على العرب أن يحصروا حجمَ الدمار الذي ألحقته بهم الدولُ الاستعمارية، وحجم الثروات التي نهبتها تلك الدول للمطالبة بالتعويض العادل كما يحدث في كافة دول العالم.
رابعًا: إصرار فصائل المقاومة على الاستمرار في مواجهة ذلك العدوّ العنصري الهمجي وعملياته الإرهابية رغم الحصار وافتقاد الأسلحة الحديثة، ومع ذلك فإن هذا الإصرارَ والاستمرارَ في المقاومة هو ما يُزعج العدوَّ كما يُزعج الرئيس الأمريكي الذي سعى في جولته لحشْدِ العرب ضد حركات التحرير والمقاومة؛ حماس، والجهاد الإسلامي، وحزب الله.
، وما يجمع هؤلاء جميعًا هو تصدِّيهم للعدو الصهيوني والإصرار على مقاومته.
هذه المقاومة البطولية الأسطورية هي عنوانُ شرفِ هذه الأمة، ويجب دعمُها بكل الطرق، وعلى الشعوب العربية والإسلامية أن تواصل دعمها لهؤلاء الأبطال، والضغط على الحكومات العربية والإسلامية حتى تغيِّر سياستها أو تبتعد عن السياسة الأمريكية.
خامسًا: آثار الفوضى الأمريكية المدمِّرة التي ضربت المنطقة كلها؛ مما جعل القضية الفلسطينية إحدى القضايا بعد أن كانت القضيةَ المركزيةَ والأولى بالنسبة للعرب والمسلمين، فها هي الفوضى تنتشر من باكستان وأفغانستان إلى العراق ولبنان، وتمتد إلى الصومال والسودان، بل وصلت إلى كينيا.
لقد انشغل كلُّ بلدٍ من البلاد بأزمته والورطة التي وضعته فيها أمريكا أو التهديد الذي تهدده به الإدارة الأمريكية كما تفعل الآن مع إيران والخليج والسعودية ومصر؛ وبذلك توزَّعت اهتماماتُ الأمة العربية والإسلامية، ويكفي الجرح الجديد النازف في العراق، والذي أوشك أن يصبح أكثر دمويةً من أي بقعة في العالم.
إن هذه الظروف العصيبة التي تمر بها القضية الفلسطينية تجعلنا نؤكِّد على الحقائق الآتية: * ستبقى فلسطين قضيةَ العرب والمسلمين الأولى والرئيسية، وسنظلُّ نعمل ونجاهد من أجل استرداد الأرض وتحرير المقدَّسات واستعادة القدس الشريف وعودة اللاجئين.
* ستظلُّ المقاومة هي طريقَنا لتحرير فلسطين، وقد ثبت للجميع فشلُ كافة المفاوضات والمساومات التي أثمرت المرَّ والحنظل، وها هو مصير الرئيس عرفات- رحمه الله- ماثلاً في الأذهان.
* سيفشل المخطط الصهيوني والأمريكي بعد أن تعثَّر في أفغانستان والعراق على يد المقاومة التي يشتدُّ ساعدُها يومًا بعد يوم، وسترحل الجيوشُ الأمريكيةُ من العراق مُكلَّلةً بالعار بعد أن زرعت الخرابَ والدمارَ، وسنظلُّ نطاردُها في المحافل الدولية لمطالبتها بالتعويضات المستحقة عن جرائمها وما ارتكبته في بلادنا.
* ستظل هذه الأمة وفيَّةً لعقيدتها وإيمانها، وحضارتها وتاريخها الذي كان الإسلام هو محورَ وجودها وسببَ كينونتها ومصدرَ نهضتها، ولن تنهض إلا بالعودة إلى هذا الدين العظيم وقِيَمه وحضارته.
﴿وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ﴾ (الشعراء: من الآية 227) صدق الله العظيم.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.