الوحدة العربية مقدمة للوحدة الإسلامية
رسالة من محمد مهدي عاكف- المرشد العام للإخوان المسلمين الحمدُ لله، والصلاةُ والسلامُ على رسول الله، ومن والاه.انفضت القمةُ العربيةُ العشرون بعد انعقادها في دمشق، وسط تجاذبٍ شديدٍ بين القادة العرب، وانقسامٍ في المواقف، وغياب نصف ملوك ورؤساء الدول العربية، ومقاطعة لبنانية، وأصبحت الدول العربية منقسمةً إلى محاور، وتفرق العرب أيدي سبأ، فهل من سبيل؟! لقد كان موقف الإخوان المسلمين من "الوحدة العربية" واضحًا منذ بداية هذه الدعوة المباركة، فإذا كان الإخوان يتمسكون بفكرتهم الإسلامية كإطار جامع، ويعملون من أجل تحقيق العزة للإسلام والمسلمين كافةً، ويجعلون على رأس أولوياتهم إعادةَ الكيان الدولي للأمة الإسلامية، عبْر خطواتٍ وئيدةٍ وخطةٍ طويلةِ المدى؛ فإن ذلك جعل من خطتهم الإخلاص لأوطانهم الخاصة؛ لأنهم يعلمون أن الإسلام قد فرضها فريضةً لازمةً لا مناص منها؛ أن يعمل كلُّ إنسان لخير بلده، وأن يتفانى في خدمته، فكل مسلم مفروض عليه أن يسدَّ الثغرة التي هو عليها، وأن يخدم الوطن الذي نشأ فيه، ومن هنا كان المسلم أعظمَ الناس وطنيةً وأعظمَهم نفعًا لمواطنيه.
فالإخوان المسلمون يحبون وطنهم، ويحرصون على وحدته الوطنية بهذا الاعتبار.
ولقد ساد في فترة من الزمان، وفقًا للتوجُّهات العلمانية وبسبب انتشار فكرة "القومية العربية"، تصورٌ خاطئٌ عن صراع مذموم وتناقض غير موجود بين "الوحدة الإسلامية" و"الوحدة العربية" أو بين "الفكرة الإسلامية" و"الفكرة القومية، وتسبَّبت النزعة العلمانية والتطرُّف القومي والتيار الشيوعي والاشتراكي في تقوية هذا النزاع المختلَق، وكان للاستبداد السياسي والديكتاتورية البغيضة أكبر الأثر في إيجاد وتقوية هذا التناقض المفتعل بين العروبة وبين الإسلام.
أما الإخوان المسلمون فهم منذ بداية دعوتهم يعلنون بوضوح أن هذا الإسلام نشأ عربيًّا، ووصل إلى الأمم عن طريق العرب، وجاء كتابه العزيز بلسان عربي مبين، وتوحَّدت الأمم باسمه على هذا اللسان يوم كان المسلمون مسلمين، وقد جاء في الأثر: "إذا ذل العرب ذلَّ الإسلام"، وقد تحقَّق هذا المعنى حين زال سلطان العرب وانتقل الأمر من أيديهم إلى غيرهم من الأعاجم؛ فالعرب هم عصبة الإسلام وحراسه، ونحن نعتبر العروبة هي اللسان كما جاء في الحديث "ألا إن العربية اللسان.
ألا إن العربية اللسان"، وهي ليست جنسًا أو عرقًا أو عصبيةً.
ولذلك جعل الإخوان المسلمون في منهاجهم وعلى رأس أولوياتهم تحقيق وحدة العرب، وإعادة مجدهم، وربطهم برسالتهم التي حقَّقت لهم العزَّ والفخارَ على مدار التاريخ، ومن هنا كانت وحدةُ العرب أمرًا لا بد منه لإعادة مجد الإسلام وإقامة دولته وإعزاز سلطانه، ومن هنا وجب على كل مسلم أن يعمل لإحياء الوحدة العربية وتأييدها ومناصرتها.
ولقد كان هذا هو موقفَنا من إنشاء الجامعة العربية والسعي إليها، وتقدَّم الإخوان بمذكراتٍ مستفيضةٍ لأول أمين عام للجامعة العربية عبد الرحمن عزام باشا، غفر الله له، وتعاون الإخوانُ مع الجامعة في شأن القضية الفلسطينية، وعملوا تحت مظلتها للدفاع عن أرض فلسطين المقدَّسة، واليوم وحال العرب لا يخفى على أحد، وتقدَّم غيرُهم في مجال تحقيق التضامن والوحدة وتفرَّقوا هم إلى أكثر من 20 دولةً، فما هو المخرج؟ وما هو البديل؟! إن تشخيص الداء من الأهمية بمكان قبل شرح العلاج.
ولقد نبَّه الإخوان في رسائل متعددة إلى القادة العرب من خطورة الأوضاع التي يعيشها العالمُ العربيُّ الآن؛ من ديكتاتوريةٍ بغيضةٍ، واستبدادٍّ سياسيٍّ، وتخلُّفٍ علميٍّ وتقنيٍّ، وتدهورٍ في الخدمات والمرافق الحياتية، وأزماتٍ اقتصاديةٍ تُنذِر بانتشار الجوع والفقر والجهل والمرض، وتفاوتٍ شديدٍ في الثروات، قسَّم العالم العربي إلى قلةٍ مترفةٍ، تُنفق بسفاهة وبذخ، وكثرة كاثرة لا تكاد تجد قوتَ يومها، وبطالة منتشرة بين الشباب؛ أدَّت إلى تدهور الأخلاق، وانتشار المفاسد والمخدرات والتفكك الاجتماعي والأسري.
هذا كله في ظل تربُّص العدوِّ الأمريكيِّ والصهيونيِّ؛ الذي بات موجودًا في قلب هذه الأمة؛ مما أدى إلى زيادة النفوذ الأجنبي وسيطرته على مقدَّرات الأمة العربية.
ويمكننا إرجاع ذلك كله إلى عوامله الأساسية وأسبابه الجوهرية؛ ففي عالم السياسة والإدارة يبقى الاستبداد والديكتاتورية، وغياب الحريات العامة، وانعدام الديمقراطية الحقيقية، وتزوير الانتخابات العامة.
هو السبب!.
وفي عالم الاقتصاد يكون الفساد، وانعدام التنمية المستقلة، والتفاوت الرهيب في الدخول.
هو السبب.
وفي عالم الاجتماع يصبح تدهور التعليم، وفساد الإعلام.
هو السبب.
والمخرج من ذلك كله واضحٌ، ولكن أين هي الإرادة القوية والعزيمة الماضية التي تأخذ بيد العرب وتضعهم على الطريق الصحيح؟ أيها القادة والزعماء.
ها أنتم اجتمعتم على خلافاتكم، ثم عدتم إلى بلادكم؛ فهل منكم من يستجيب لنداء الحق: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾ (الأنفال: من الآية 24)؟ هل منكم من يصغى إلى نداء الحق: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا﴾ (آل عمران: من الآية 103)؟ هل منكم من استمع إلى تحذير الحق: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ﴾ (آل عمران: من الآية 118)؟! أيها الملوك والأمراء والرؤساء.
- اصطلحوا مع الله أولاً، واعلموا أنكم راجعون إليه، موقوفون بين يديه، مسئولون عن كل ما قدمت أيديكم، فهلاَّ طبَّقتم شريعته، ففيها النجاة والمخرج من كل ضيق.
- اصطلحوا مع شعوبكم، وأطلِقوا حريات الشعوب، وانزلوا على إرادتها، واحتكِموا إلى خياراتها؛ فبوصلة الشعوب هي السليمة دائمًا.
- تحرَّروا من الأحلاف الخارجية، ولا ترهنوا قراراتكم لعدوِّكم، وتخلَّصوا من الولاء لشرق أو لغرب، واجعلوا ولاءكم لمصالح شعوبكم فقط بعد تحرير ولائكم لله تعالى.
أيها الملوك والأمراء والرؤساء.
- فلسطين تناديكم، وأهل غزة والضفة الغربية يستصرخون فيكم النخوةَ والعزَّةَ والكرامةَ؛ فهل بقيت بقيةٌ من كرامة ترفعون بها الحصار وتنفِّذون فيها قرارَكم السابق بكسر الحصار عن غزة؟ - العدو الأمريكي والصهيوني يتربَّص بكم، ويستخفُّ بقمَّتكم وقراراتكم، فهل هناك من إرادة تقفون بها صفًّا واحدًا في وجه هذا الاستخفاف الذي بلغ مداه؟ - القوى الإقليمية تتقدَّم وتُحقِّق مكاسب على أشلاء وحدتكم بسبب نزاعاتكم وبتخطيطٍ من عدوِّكم، فهل أفقتم للخطر الذي يتربَّص بكم ووقفتم وقفةً حقيقيةً لمراجعة أنفسكم؟ أيها الشعب العربي الواحد.
فليجتمع القادةُ ما شاء لهم أن يجتمعوا، وليتخذوا ما شاء لهم من قراراتٍ، ولكن أنت أيها الشعب مَعْقِد الآمال، ومرتجى الغايات، وكلمتُك هي الأبقى؛ فحقِّق بإرادتك الحرة ما لا يقدر الحكَّام على تنفيذه.
إن الأمل معقودٌ على نهضتك، فانهض من كبوة، واعزم عزمةً واحدةً على استردادِ كرامتك ونَيْلِ حقوقك واستعادة حريتك؛ فهذا هو السبيل الوحيد إلى تحقيق ما عجزت عنه الأنظمةُ والحكوماتُ بعد مسيرة أكثر من ستين عامًا منذ إنشاء الجامعة العربية، واجعل في رأس أهدافك حمل رسالة الهداية والخير للعالمين، وحقق ما حققه أسلافُك الذين قال الله فيهم: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ (آل عمران: من الآية 110).
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.